لا يبدو مسعى التخويف من النزعة quot;الإسلاميةquot; للحراك الشعبي في سوريا مقتصراً على خصومها فحسب، تلك حقيقة وواقع بات يدركه السوريون وهم يرون دماءهم تسيل على جنبات مظاهراتهم التي عرفت زخماً جماهيرياً كبيراً قبل أن تسير بهم دروب الحراك في دهاليز المواجهة العسكرية والاحتراب الداخلي، بقصد أو من دون قصد. فحتى الحلفاء والمناصرون من خارج سوريا، وهم طيف متنوع من أقصى الشرق الآسيوي (كاليابان) وحتى أقصى الغرب على ضفتي الأطلسي، مروراً بالدول العربية التي تفاوت حجم تأييدها، كانوا ولا يزالون يخشون مما يسمونه quot;تفاقمquot; نزعة الأسلمة لحراك سلمي شعبي لمجتمع متعدد الإثنيات والطوائف والمذاهب، وما عرف احتقاناً او احتراباً طائفياً داخلياً فيما سبق.
لا يمكن القول بداية إن أدبيات الثورة السورية قد راكمت بما يكفي لتعبر عن نفسها أولاً وعن حشود مؤيديها تالياً، فما كتب حتى الآن مجرد quot;نثارquot; أدبي وquot;خواطريquot; وجد في وسائل التواصل الاجتماعي quot;متنفساًquot; له في ظل انشغال الجميع بالعمل الميداني في الوقت الراهن، وعليه، فإن الخوف أو التخوف من quot;امتلاءquot; بعض الأدبيات بالمصطلحات والشعارات الإسلامية غير دقيق في ظل قلّته أولاً، ووجود مقابل quot;علمانيquot; أو quot;إنسانيquot; يعلي من شأن مفاهيم الديمقراطية والحرية والتعدد وقبول الآخر والتسامح المجتمعي، على الرغم من كل ما جرى، وهو أمر يمكن تلمسه بسهولة لدى متابعة مواقع التواصل الاجتماعي وبعض ما كتب حتى الآن.
من المهم التأكيد على أن مسعى quot;استدعاءquot; الإسلاموفوبيا والتخويف من مساعي الأسلمة وquot;السلفنةquot; لكل مناحيها كان هدفاً للآلة الإعلامية الرسمية وكل من حالفها من أدوات إعلامية إقليمية في كل من لبنان والعراق وبعض الدول العربية التي كانت ترفع لواء quot;العروبةquot; وquot;القوميةquot; في مواجهة خصومها ليسقط هذا القناع مع تهاوي حصون القومية في العالم العربي بمجيء ربيعه، فبدأ التجييش الطائفي والحرص على إبراز توافد الجهاديين إلى سوريا من كل بقاع العالم، ومواجهة المشروع الإخواني- السلفي في سوريا، وتحفيز الأدوات المذهبية والطائفية لمواجهة الحراك السوري الذي كان على المستوى الشعبي والنخبوي رافضاً لمفردات خطاب إعلامي يجرمه ويصفه بكل أوصاف التطرف والتشدد والمغالاة، على مبدأ quot;رمتني بدائها وانسلتquot;، فيما كانت ذات الأدوات الإعلامية توجه خطابها في الوقت نفسه، إلى جمهورها الأقلوي والقومي (ولو من حيث الظاهر) للوقوف في وجه الهجمة الإسلامية التي تتعرض لها سوريا، في اصطفاف طائفي ومذهبي وحتى حزبي وجد الشعب السوري نفسه في مواجهة خصوم يمتلكون كل وسائل المواجهة أمام صوت هتافاته وشعاراته البسيطة.
quot;الموت ولا المذلةquot; شعار سوري بامتياز لا يعدم المنقب عن جذوره التاريخي مستنداً له، والمفاجئ أن المستند سيكون هذه المرة مفارقاً لكل ادعاءات الخصوم وتخرصاتهم، فجذور الشعار الهتاف تعود إلى الإمام الحسين بن علي، رضي الله عنه، في المعركة الشهيرة التي استشهد فيها وهو يقول: quot; ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلكquot; وهو شعار لطالما ردده الشيعة في مناسبات استذكار الإمام الحسين رضي الله عنه، لكنه شعار مركوز في غياهب اللاوعي المجتمعي السوري، وخرج تحت شعار عريض ومعلن مسمياً ثورته بثورة الكرامة.
الطريف في الأمر أن كثيراً من خصوم الثورة السورية لم يفتؤوا يهزؤون من شعار quot;الموت ولا المذلةquot; بقولهم: quot;الموز.. ولا البازلاءquot;.. وما دروا أنهم بذلك يمسون شعاراً يرددونه بألسنتهم دون أن يجاوز عقولهم أو محاكماتهم لما يسخرون منه!؟ محاولين الإيحاء أن لبّ الحراك السوري هو مطالب شعبية اقتصادية بالدرجة الأولى.
لن أتوسع في سرد الشعارات التي يرددها السوريون في كل مظاهرة تخرج في كل جمعة، ولا في عناوين الجمع التي اكتست عناوين وحدوية ومناطقية وإثنية للتأكيد على بعدها عن التطرف والانقسام والمذهبة التي يحاول خصومها لصقها بها، يكفي أن تطالع على اليوتيوب، وهو المصدر الرئيس للتوثيق بالنسبة للسوريين في الوقت الراهن، بعد أن تحرروا من عباءة أي إعلام موجه، حتى لو كان يخدمهم ويؤيدهم، فما يسمى بـquot;قسم الثورةquot;، وهو شعار يردده المتظاهرون في كل تجمع يتسنى لهم الخروج فيه، يطفح بالتأكيد على معالم نضج سياسي رغم شعبية الحضور في كثير من الأحيان، وباستثناء لفظ القسم quot;أقسم بالله العظيمquot; بداية القسم، وquot;إعلاء كلمة اللهquot; في نهايته، ترن عبارة لها وقع قل نظيره بالنسبة لجمهور متحمس في ظروف استثنائية quot;ألا أكون طائفياً وأن أكون متسامحاًquot; دون أن تقلل من وقعها عبارة quot;وأن أنتقم ممن سفك دماء السوريينquot;، فالانتقام شيء.. والحقد الطائفي أو المذهبي أو الإثني شيء آخر، وهو لا يعدو (أي الانتقام) أن يعبر شعبياً عن مفهوم العدالة والقصاص لا أكثر.
نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الخطاب الرسمي السوري يطفح بالتركيز على شعار quot;آخر معاقل العلمانيةquot; في المنطقة، وهو شعار لا يقل استفزازاً بالنسبة لشعوب المنطقة بأسرها ومن كل التوجهات الفكرية، في ظل ضعف تمثيله وحضوره على مستوى الخطاب الشعبي وما يحمل من دلالات quot;إقصائيةquot; للدين من الموروث الجمعي لشعوب المنطقة، الأمر الذي قد يبرر، من وجهة نظر البعض، لكثير من الشعارات والخطابات التي قد تكتسي طابعاً إسلامياً من باب النكاية.. ليس إلا.
... كاتب وباحث
[email protected]
التعليقات