لا يمكن من حيث المبدأ (مهما اختلفنا حول توقيت الخطوة وضرورتها) التقليل من أهمية توجه السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة لنيل مقعد دولة مراقب فيها، فلعل من أهم مكاسب ما تم أمس من نجاح quot;دبلوماسيquot; إبراز مدى quot;القوة الناعمةquot; التي يتمتع بها الفلسطينيون في المحافل الدولية، وقياس منسوب عدالة قضيتهم ومقدار محبتهم بين شعوب العالم وأنظمته، التي صوت 138 دولة إلى جانب منح فلسطين مقعداً لدولة مراقب في الجمعية العامة للامم المتحدة، فيما امتنعت 41 دولة فقط عن الإدلاء برأيها، بينما كان من المعترضين دولتان معروفتان بتأييدهما quot;الأعمىquot; لإسرائيل (كندا والولايات المتحدة) وبعض الدول الهامشية التي ربما لم يسمع بها كثير من الفلسطينيين والعرب ودول العالم.
لعل المراهنين على أهمية الحراك الفلسطيني المكثف تجاه الأمم المتحدة قد روجوا لذلك من خلال التلويح بتفعيل القوانين الدولية كمرجعية، والحصول على حق التصديق على المعاهدات الدولية. وهو ما قد يشكّل نقلة إستراتيجية في النزاع الفلسطيني ndash; الإسرائيلي، إذ انه يدعّم المفاوضات بالشرعية الدولية ويطلق سراحها من الارتهان لأمور أخرى.
الخبير الإسرائيلي في شؤون الشرق الأوسط، إيال زيسر، اعتبر الخطوة الفلسطينية مجرد quot;إجراء رمزيquot;، quot;إذ أنه لا توجد حدود أو جيش أو مطارات، أو أية مؤشرات على دولة مستقلة ذات سيادةquot;. إلا أنه استدرك قائلاً أنه quot;على الرغم من رمزية وضع الفلسطينيين الجديد، إلا ان الخطوة تعكس تقدم الفلسطينيين على مسار إقامة دولتهم المستقلة، وأن الخوف يكمن من احتمالات إعلان الفلسطينيين دولتهم في المستقبل بشكل أحادي الجانبquot;.
ردود الفعل الإسرائيلية التي يتوقعها الفلسطينينون، وفق دراسة أعدها كبير المفاوضين (صائب عريقات)، لن تقتصر على تحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية تقويض السلام، وإنما ستشمل: laquo;حجز العائدات الضريبية الفلسطينية. استفزاز وإحداث تدهور في الوضع الأمني على الأرض. اتخاذ خطوات للانسحاب الأحادي الجانب نحو الجدار. فرض قيود تؤثر في القطاع الخاص والاقتصاد العامraquo; وlaquo;ربما تعليق العقود مع وزارات وهيئات السلطة الوطنية الفلسطينيةraquo;.
وفي ظني أن مسؤولي السلطة قد وعوا هذه التدابير الإسرائيلية الانتقامية، ورأوا أنها لا تعدو ما يقاسونه كل يوم في مدن الضفة وبلداتها، بحث أصبحت هذه الممارسات أمراً واقعاً وملموساً حتى قبل التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة. وبالتالي فإن مراهنة quot;إسرائيلquot; على مثل هذه الإجراءات اليومية لا أعتقد أنها سوف تجدي نفعاً.
أما الخطوات ذات التبعات الإستراتيجية، فإنها، وفق الدراسة، قد تتضمن quot;رفض الاعتراف بالسيادة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية المحتلة، وتوسيع المستوطنات وتنشيطها خاصة في القدس الشرقية، وضم بعض الكتل الاستيطانية الى quot;إسرائيلquot;، وربما إعلان أنها في حل من الاتفاقات الموقعة سابقاًquot;. وهي أيضاً خطوات سياسية لا أعتقد أن الكيان الإسرائيلي قادر على تحمل تبعات الرد الفلسطيني عليها، إذ أنها قد تعني مسؤولية إسرائيلية مباشرة عن إدارة كل أراضي الضفة أو إعادة لاحتلالها بشكل مباشر، والتهديد بتفجير انتفاضة فلسطينية ثالثة كل الظروف باتت مهيأة لاندلاعها.
تهديدات الولايات المتحدة quot;الماليةquot; وquot;الرمزيةquot; بدلالاتها من حيث تقليص أو حتى إيقاف التمويل المالي، وحتى إغلاق مكاتب منظمة التحرير، وإيقاف الحوار السياسي مع رموز السلطة ومسؤوليها، ومعها العقوبات الإسرائيلية لن تمنع quot;دولة فلسطينquot; من الانضمام الى المعاهدات الدولية بما فيها اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقات حقوق الإنسان، وقانون البحار، واتفاقية جنيف الرابعة المعنية بحماية المدنيين تحت الاحتلال.
وفي ضوء quot;ضعفquot; الخيارات وردود الفعل الأمريكية والإسرائيلية على الخطوة الفلسطينية التي توجت بإنجاز، من وجهة نظر من سعى إليها، على الأقل، تبقى الكرة في ملعب الفلسطينيين لاستثمار ما تحقق والبناء عليه، فهناك خيارات متعددة وصراع أولويات بين عدة أطياف فلسطينية تحاول التنازع على تقديم بعضها على بعض، فهناك من يرى أهمية الاتفاق على استراتيجية فلسطينية موحدة للبناء على ما تم في غزة وأمس في نيويورك باتجاه رسم ملامح الحراك الفلسطيني مستقبلاً، وإعادة بناء منظمة التحرير وغيرها من المؤسسات الفلسطينية بهدف توحيد الصف الفلسطيني وإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الفلسطينية.
وهناك من يرى ضرورة البناء على العضوية الأممية بغية التوجه إلى المنظمات والهيئات الدولية والاستمرار في محاربة quot;إسرائيلquot; في المحافل الدولية بالوسائل الدبلوماسية التي أجدت نفعاً كما يرى أنصار هذا التوجه، وبالذات في محكمة العدل الدولية ومحاسبة الكيان الإسرائيلي على جرائمه السابقة، فيما يرى تيار آخر أهمية تقوية مؤسسات السلطة وتعزيز خيار الدولةquot; بمعزل عن نتائج المفاوضات وحصيلة التبرعات الدولية لبنائها. ويبقى خيار المقاومة العسكرية المسلحة أو حتى الشعبية السلمية قائماً لدى شريحة واسعة ممن رأى في الخطوة الفلسطينية quot;نصراًquot; فلسطينياً quot;مؤقتاًquot; لا يلبث أن تنقضه quot;إسرائيلquot; بعدوان عسكري جديد لمحو آثار العار الذي لحقها مؤخراً سياسياً وعسكرياً.
وبين هذه الخيارات يظل الأمر موكولاً للشعب الفلسطيني لتحديد خياراته والتزام زمام مبادرته، وهو ما يتطلب مصارحة فلسطينية داخلية، وانفتاحاً من قبل كل التيارات على كل الخيارت، ورفضاً لنظريات الإقصاء والتخوين والارتهان لمشاريع وأحلاف، كما جرت العادة، وكما هو الواقع المعاش دوماً!!

كاتب وباحث
[email protected]