مراجعة في المشروع الإبراهيمي للسلام العالمي
في ضوء المذابح التي تتم في سوريا يصعب تصور ولادة سلام اجتماعي ولكن (نََظْم) الحرب والسلام أو (التانتوسTantus) و(الليبيدوLibido) في علم النفس تقول أن الحرب حالة غير ممكنة، لأنها تعني الفناء والحقد والتدمير والانهيار الأخلاقي والجريمة وبكلمة مختصرة (الجنون) وهو ما أقدم عليها طبيب العينية السوري بدون بصيرة في ولوج هذا الباب الجهنمي.
سوف تصل سوريا إلى شاطئ العدل والسلام والحرية بكل تأكيد وفي وقت لن يطول. وإن كان الجدل الفلسفي يفرض نفسه دوما لماذا هذا (العِرْق) من الجنون يدفع الإنسان لنزعة التدمير والوحشية والغريزة البدائية.
هذه الثنائية حيرت فيلسوف التنوير (باسكال) فكتب فكرة اللانهايتين يتساءل عن معنى ثنائية الخير والشر؟ الرحمة والقسوة؟ السرور والبكاء؟ كيف يمكن للإنسان أن يتأرجح بين الوحش والقديس؟ بين النورانية وبالوعة الضلال؟ فهل من جواب.
يجب أن نعترف أن الأنبياء وعلى رأٍسهم إبراهيم خططوا لمشروع السلام العالمي، ولكن لم يصل هذا الجنس البشري (الوحش) لحافة السلام لولا الردع النووي والوصول إلى حافة الفناء.
لذا يمكن النظر من جانب إلى عتبة السلاح القصوى أنها من جاءت بالسلام العالمي، ومن يستخدم السلاح هم واحد من ثلاثة: المتخلفين في صراعاتهم لحل مشاكلهم، كما يفعل الطبيب الأعشى في سوريا. أو لتأديب المتخلفين كما في كنس صدام ونرويجا. أو الانحطاط الخلقي عند من ليس عنده خلاق من الكبار فيمد الصغار كي يفتك بعضهم ببعض! كما فعلت ثلاثون دولة في صراع العراق وإيران، وكما تفعل قوى كثيرة حالية في الحرب العالمية السورية.


كتب فيلسوف التنوير (إيمانويل كانط Immanuel Kant) كتابه نحو السلام الأبدي (Zum ewigen Frieden) مصمما مشروع الأمم المتحدة، الذي ناقشه أردوجان قبل أيام داعيا لأعادة هيكلة المنظمة، وهي في قناعتي يجب أن تتخلص من مجلس الأمن (الرعب عفوا) الذي يعيق ولادة العدل العالمي، كما في المذابح السورية وموقف روسيا والصين. والحل القادم (ربما خلال هذا القرن؟) سيكون بناء برلمان عالمي، بدون حق (فيتو) بل بالتصويت وقدرة تنفيذ القرارات، ولوي ذراع بني صهيون، كي تنصاع لقرارات الأمم المتحدة، بدون الأم الحامية (أمريكا).
وقبل أن يصعد سيد قطب إلى المشنقة الناصرية كتب في (السلام العالمي والإسلام) والعدالة الاجتماعية، وليته تابع في هذا الاتجاه، بدون أن يكتب في (المعالم) حول القاعدة الصلبة الواعية التي ارتطمت بالبرجين.
كنت في العمرة مع زوجتي وفي السعي بين الصفا والمروة وبين الخطين الأخضرين (ضوء أخضر مضاء أعلى السعي) بدأت بالركض أنا وزوجتي. التفت إلينا معتمر مع زوجته فاستنكر أن تركض امرأة! قلت لها يبدو أنك لا تعرف ماذا حدث هنا. إنها أمنا هاجر هي التي كانت تركض هذه المسافة قبل أن ينبجس بين قدميها ماء زمزم. ركب رأسه وقال لا تركض أنت فأنت رجل فحل! يبدو أن لا فائدة من أدمغة (صناديق حديدية) ملحومة بالأوكسجين من الزوايا الثمانية مثل أي صندوق محكم الإغلاق!
التفت إليه وقلت له: أما أنا فراكض مع زوجتي مقلدا هاجر عليها السلام أما أنت فاقعدوا مع القاعدين.
هذه القصة البسيطة تحكي (الفراق) و(الفصام) بين (الطقوس) و(المعنى). مثل أي طاحونة تعنّ في الفراغ، وناعورة تدور بدون ماء، و(قشاط = حزام) محرك سيارة انفلت من (الدينمو) فلم يعد يملأ الكهرباء.
المسلمون يحجون ويعتمرون، يصلون ويصومون، ولكنهم غائبون عن المعنى، خلف كل هذه الحركات؛ فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا.
إنهم حاليا بدون وزن في العالم، لأنهم يؤدون طقوسا خالية من المعنى؛ فتتبخر الحيوية، فلا تنبثق الحياة ولا يضرب شريان أو يخفق قلب.
لذا فإن من الضرورة بمكان؛ بناء قاعات محاضرات هائلة، يستقطب لها أدمغة إسلامية من كل العالم، تستخدم فيها التكنولوجي الحديثة بالصوت والصورة عن التاريخ والجغرافيا ومعنى مجيء إبراهيم لهذه البقعة لبناء بيت في الصحراء يصفر فيه الهواء ويشتد الحر ويضرب الغبار ليكون مكانا لأفئدة الناس.
نعم الحج والعمرة مؤتمر إنساني، تكاد لا توجد مدينة وقطر على وجه الأرض، إلا وجاءها معتكف على ضامر من فج عميق. لكن تبني مشروع من هذا النوع خطير على البنى السياسية من وراء نشر الوعي.
جلست لعائلة في العيد سائلا ماذا تفهمون من قصة إبراهيم والضحية؟
راجعنا آيات سورة الصافات؛ قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟. يجيب إسماعيل يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. هنا تأتي لقطة قرآنية فلما أسلما و(تلَّه للجبين) يبدو أنه حتى لا يرى وجه ابنه الذبيح وهو يعاني من سكرات الموت والذبح والنزف فقد جعل وجهه للأسفل! في هذه اللحظة من الاستسلام الأعظم؛ إبراهيم يأخذ السكين. إسماعيل مكب الوجه مستسلم تحصل مفاجأة! نداء هائل وملاك يشق السماء حاملا الكبش.
ما معنى الكبش الفدية الضحية؟ هناك مشروع كبير في مخطط هذا الرجل القادم من العراق فارا من الطغيان النمرودي وتيبس العقول في عبادة أصنام بشرية وحجرية.
حقيقةً شخصية إبراهيم لذيذة تمثل الذكاء والحركة والهجرة والتنقل والتبديل والاجتماع بالأنبياء (لوط) وتعدد الزيجات لظروف (هاجر وسارة) والجرأة وقوة الحجة وحسن التصرف، وأكثر من ذلك خلفه مشروع كبير ولكن أين مكانه وتجلياته.
تمنيت أن أجاري مجلة (PM) الألمانية في التحقيق الزمني للوقت الذي جاء فيه إبراهيم؟ وما معنى تنقلاته العديدة من العراق إلى فلسطين إلى مصر وأخيرا الجزيرة العربية.
لقد قامت المجلة المذكورة بالتحقيق في هذا ورسمت خريطة آثار أقدامه، وعرفت أنه عاش في الألف الرابعة قبل الميلاد ربما، مع مطلع الحضارة في نينوى وأوروك.
القرآن يتحدث عن شيء اسمه (صحف إبراهيم وموسى). هنا نفهم أن هذين الرسولين جاءا في وقت سادت فيه الكتابة، وهي اختراع إنساني منذ الألف الخامسة قبل الميلاد.
أما نوح عليه السلام فيبدو أن عاش في زمن ما قبل تاريخي (Pre-historic) حيث لا كتابة تؤرخ وتوثق ما جرى.
أما آدم فهو المشروع الإنساني الأول الذي بدأ مع الهومو سابينس سابينس (Homo - sapiens - Sapiens) (الإنسان العاقل العاقل) الذي ثبت شكله منذ حوالي 200 ألف سنة، ومن شرق أفريقيا قبل أن يزحف إلى الشرق الأوسط قبل 65 ألف سنة، وأوربا قبل 35 ألف سنة؛ فيجتمع بإنسان نياندرتال ويقضي عليه ويستأصله مع الطبيعة وضعف نسله، ثم يمشي باتجاه قراقورم وبهرنك وألاسكا حتى يصل أمريكا الجنوبية قبل 12 ألف سنة.
إبراهيم كان يبحث عن واد غير زرع كي يبني عنده بيته المحرم. هنا يبدأ المعنى (المحرم) فكما حرم الله على آدم الشجرة؛ فحملت حواء مشروع الحضارة بعدم الاعتماد على الصيد بل الشجرة، أي الزراعة، ومنها نِشأت المدينة والسياسة والنقد والعجلة والكتابة والاقتصاد والحرب؛ فكانت عقوبة دخول الحضارة المعاناة والشقاء ـ بتعبير عالم الاجتماع العراقي الوردي ـ لحين دخول الجنة فلا تشقى.
المشروع الإبراهيمي هو تعديل خطأ آدم الأول ليس على الطريقة المسيحية في الكروموسومات (الخطيئة) بل الثقافة.
دشن هذا الرجل اللطيف الكعبة قياما للناس والشهر الحرام. فأصبح هناك (مكان) و(زمان) لوقف (الحرام) المتمثل في القتال وسفك الدماء.
آدم زل فتاب الله عليه وهدى، ونوح كنس البشر الأوغاد فاجرا كفارا من وجه الأرض بالطوفان، وولدي آدم بدئوا رحلة البشرية بالقتل(فطوعت له نفسه فقتله) وهو ما توقعته الملائكة بالضبط في سؤالها القديم أتجعل فيها من يسفك الدماء؟
ويبقى الجواب مفتوحا بجملة مليئة بالألغاز من الرحمن (إني أعلم ما لا تعلمون!)
دشن إبراهيم الحرمة والحرام والبيت الحرام ووضع الشعارات والرموز كلها في خدمة أن هناك مكان يحرم فيه قتال وسفك دم. وأن هناك زمن يحرم فيه القتال وإراقة الدماء. بقي هذا الشعار الضخم في إعلان وقف التقدم بالبشر كقربان فجاءت فكرة الضحية أن لا يضحى بالإنسان في أي صورة ومن أجل أي مذهب وحرب، ومنه اشتق أعظم وأكبر عيد؛ عيد الأضحى المبارك.
هذا المعنى الضخم غفل عنه الناس ويغفل عنه المسلمون الذي يزحفون بأشد من سمك السلمون؛ فيظنوا أنها حركات ومشي وهرولة ونوم في منى ومزدلفة ورمي أحجار وأحيانا شحاحيط يؤذي بعضهم بعضا، أو يتدافعوا فيموت وتختنق أعداد أحيانا بالآلاف، كما حصل في نفق المعيصم يوما، أو يحاول بنو فارس أن يوظفوا الحج لشعاراتهم السياسية؛ فيزعموا قراءة سورة براءة في الحج، أن عليا قدم، وأن السورة نزلت براءة من أمريكا وولاء لسوريا نظام الطاغية الأرعن.
هذا هو لب المشروع الإبراهيمي شحن العالم سنويا بروح السلام من خلال الأضحية إعلانا لوقف التقرب بالإنسان قربان؛ على أي مذبح وشعار وحرب؛ بل الحيوان فاذكروا اسم الله عليه صواف فإذا وجبت جنوبها فكلموا منها وأطعموا البائس الفقير.
إنه إعلان السلام وموت مؤسسة الحرب على نحو مبكر فلم يقتنع بها العالم حتى صدقها العلم بالقنبلة النووية التي جربت مرة واحدة وفائدتها الوحيدة أن لا يعاد استعمالها قط.
هنا أيضا وفي هذه البقعة العالمية نادرة المثال التي ينطلق إليها البشر من جهات المعمورة الأربعة يجب الانتباه أن هذا اللقاء عالمي ومفتوح لـ (الإنسان) البشرية جمعاء.
ليس من آية في الحج إلا وتذكر الإنسان على الإطلاق. (وأذن في الناس ـ أول بيت وضع للناس ـ ولله على الناس ـ قياما للناس) لم اجتمع بآية ـ وأنا حافظ ودارس القرآن لثماني سنين ـ تذكر وتقرن الحج بالمؤمنين والمسلمين بل (الناس) على الإطلاق، ولا أدري كيف يجب أن تكون الصورة في استقطاب مفكري العالم وفلاسفته من كل أصقاع الأرض للانتباه لرسالة السلام الحيوية من هذا المكان المشع.
كذلك كان حزني ومفاجأتي كبيرة حين اكتشفت للمرة الأولى في زيارتي للبيت (الحرام) أنه بفعل الأبنية المحيطة به قد تحول إلى حفرة يحجب عنها الضوء بناطحات سحاب.
أظن أنه في المستقبل سيفكر مهندسو العالم (الناس) أن يغيروا المكان كلية؛ فيحافظوا على البيت، ويمسحوا كل البناء من حوله بمسطحات خضراء بهجة للناظرين ومتعة للزائرين ولمسافة بضعة كيلومترات.
أنا متيقن أن هذا قادم فيسحب البيت (الحرام) من أيدي كثير من اللصوص والمرابين وتجار العقارات وهوامير الاستثمارات؟
هذا ما أقوله وفي نفسي أمور أكبر لا يتحملها فقهاء العصر القديم الذين يلبسون عباءات انجليزية ويحملون موبايلات سامسونج جالاكسي.
حين دخل السميح المسيح عليه السلام إلى المعبد في القدس انتفض في ثورة غير معهودة فقلب موائد الصيارفة وأعشاش بياعي الحمام وصرخ: إنه بيت الله حولتموه إلى مغارة لصوص.
من كان له أذنان للسمع فليسمع.
وفي القرآن لهم آذان لا يسمعون بها، وهي عنوان مقالة عن طبيب العيون الأعشى السوري، الذي أغرق سوريا في حمام دم، وقدم الشعب السوري (ضحية) للذبح مثل أي كبش املح، في الوقت الذي يصلي هو العيد، عن يمينه والشمال مفتي الجمهورية المنافق، وواعظ السلطان البوطي الحي الميت بلفة وعمامة عصملية.