تم اعتقال ومحاكمة وحبس رئيس تحرير جريدة المساء المغربية (رشيد النيني) فجلس في مدرسة النبي يوسف عليه السلام عاما كاملاً دفع فيها ضريبة حرية الضمير وحرية التعبير؛ فهل خدم خصوم النيني قضيته أم قادوه لإعلان التوبة؟
يبدو أن النتيجة جاءت على عكس ما توقع معذبوه وحابسوه فرفعوا علمه وجعلوه أكثر شهرة وأعظم أثرا.
يبدو أن كلماتنا تبقى عرائس من شمع فإذا متنا في سبيلها أو دخلنا السجن دبت فيها الحياة.
سأل الفيلسوف ابيكتيتوس تلميذه يشرح له معنى الحرية:
هل يستطيع أحد أن يجعلك أن تصدق ما ليس بصدق؟
التلميذ: لا
ابيكتيتوس: هل يستطيع أحد أن يكرهك على فعل مالا تريد؟
التلميذ: نعم.
ابيكتيتوس: وكيف ذلك؟
التلميذ: إذا هددني بالحبس أو الموت!
ابيكتيتوس:فإذا لم تخش من الحبس والموت هل يستطيع؟
التلميذ: لا
ابيكتيتوس: أنت حر حينذاك.
هذا هو درس رشيد النيني الذي لم يركع في السجن إلا لله.
وهو شعار الثوار في سوريا لن نركع إلا لله..
الموت ولا المذلة.
لقد خدم خصوم رشيد النيني في رفع اسمه الى أعلى عليين بما يعجز عنه رشيد النيني ولو جند لشهرته حملة انتخابية اشد من حملة أوباما وكلينتون ومك كين في أمريكا.
هكذا يضحك التاريخ بقهقهة مجلجلة.
كل الخطر على رشيد النيني الآن أن يخطئ في التعبير بعد أن دافع عن التعبير، أو يتملكه الغرور بعد كل هذا الانتفاخ الإعلامي، أو يفقد اتزانه بعد الحكمة العميقة التي نهلها من جب يوسف.
نعم إن السجون مدارس يوسفية.
هكذا وصف سعيد النورسي التركي السجن بعد أن لبث فيه سنين عددا.
سعيد النورسي سجنوه أربعين سنة، والآن له أربعون ألف مدرسة في تركيا، ومؤتمر سنوي يدشن باسمه بأنه قارب النبوة فأصبح قاب قوسين أو أدنى فتدلى، وهو رجل بسيط قال عن نفسه أنه يأكل القديد في يوم العيد ويمشي في الأسواق. ولكن هكذا يفعل خصومه به فيرفعوا قدره أكثر بكثير مما لو أراد أن يرفع ذكره ويزيل عنه بؤسه الذي أنقض ظهره؛ فهذه هي مهزلة التاريخ بين المناضلين والخصوم والأتباع.
المناضلون بسيطون يلهمون بالجدل من أجل الحقيقة، والخصوم يريدون إطفاء نور الله من جذوة الحقيقة الموضوعة في فطرة الإنسان، والأتباع يتحمسون ثم يقدسون ثم يؤلهون كما رفع النصارى المسيح إلى رتبة الإله ثم احتاروا في تركيب مثلث الأقانيم بما يعجز عن شرحه البابا ومجلس الكرادلة العشرون.
النورسي يقدس أتباعه ذكراه بأشد من غاندي وبوذا وكونفوشيوس، وهرب احد أتباعه من تركيا فانتشر في العالم بأشد من سرعة طيران الكونكورد في السماء، ونمو الفطر في الغابات المطيرة، فبنوا جامعات في أمريكا، ووصلوا إلى المغرب فاحتلوا مدارس في مدينة الجديدة؛ فيجب أن نشكر اتاتاتورك وعبد الناصر وستالين وبول بوت وصدام حسين والقذافي وحافظ الأسد ورجال المخابرات الأشاوس إنهم يخدمون الأحرار من حيث لا يشعرون.
مرة أخرى يضحك التاريخ بقهقهة مجلجلة.
والله يعلم وانتم لا تعلمون
فلسفة القرآن في حادثة الإفك إنها ليست شرا بل هي خير من حيث لم يدر جيل الصحابة.
لذلك يجب فهم فلسفة الخير والشر أن مشاعرنا ليست صوابا دوما وليست مؤشرا على الصواب بأي حال.
فالشر ليس شرا بذاته، بل هو اندفاع خاطئ، في المكان الغلط، في الوقت الغلط، للسبب الغلط،هكذا يفسر (التحدي الأرسطي) الغضب الغلط.
القرآن يؤكد على وجود العواطف كوقود للأفكار. وقود مضبوط في حاويات مثل البنزين في السيارات؛ لذا قال القرآن والكاظمين الغيظ وليس المتخلصين من الغيظ؛ فهو مستحيل لأنه من تركيب النفس مثل الهورمونات في الدم؛ فالعواطف والانفعالات هي وقود السلوك، والعقل هو مقود الحركة.
هنا تتضافر ثلاث آليات لإفراز السلوك الإنساني؛ من الوقود والحاوية والمقود. فتبارك الله أحسن الخالقين.
لقد خدم خصوم رشيد رشيدا بما يعجز رشيد عن خدمة نفسه، لذا يجب أن نرسل من خلال هذه المقالة خطاب شكر لكل من ساهم في إدخال النيني السجن.
لقد اجتهدوا وأخطأوا ولكنهم خدموا قضية الحرية جدا.
واليوم يسجنون النيني ومعه الضمير ولكن غدا سيسجن أيضا تحت هذا المسوغ أحرار آخرون، فأصبح المجتمع برمته مهددا بالشلل العقلي.
رشيد النيني هو إذا أكسجين الحرية وكولومبوس العالم الأخلاقي الجديد.
نقول لهم لقد خدمتم رشيدا وجعلتم منه بطلا قوميا فشكرا لكم أن حولتموه إلى رمز يتألق في السماء بأشد من الشعرى اليمانية.
كان قبل السجن مشهورا ومحبوبا لدى شريحة واسعة من الناس خاصة من الفقراء والمساكين والمثقفين، لكنه بعد السجن تحول إلى كوكب دري في السماء.
إن قصة صناعة الأبطال تتكرر في كل مكان.
ماهر عرار أصبح بطلا قوميا في كندا نحتل صورته الصفحة الأولى من جريدة مونتريال، حين أرسله الأمريكان إلى سجون البعث السورية، واستردته منظمات حقوق الإنسان فرجع ولم يشكر الحكومة الكندية بكلمة، بل شكر الأحرار الذين رافقوه في ظلمات السجن البعثي في سوريا.
أديب الشيشكلي حاكم سوريا العسكري في الخمسينات أمسك عددا من أحرار الفكر ثم انتبه إلى غلطته فهرع إلى السجن وخاطبهم: اخرجوا أيها الملاعين من السجن لن اجعل منكم أبطالا!
الحاكم العسكري في الهند في حملة الملح قال: لا تعتقلوا غاندي لا أريد أن اجعل منه بطلا!
عبد الناصر بشنق سيد قطب حوله الى أسطورة، فزادت نسخ طبع في ظلال القرآن عن مليون!
وحين قتل ارنيستو تشي غيفارا حوله الفلاحون في بوليفيا الى مقدس ما فوق بشري وهو القاتل الأرعن.
أما النصارى فكانت قصة صلب المسيح اللغز الأعظم فلم يجدوا تفسيرا إلا في تحويل المسيح إلى إله يدير القمر ويقلب الشمس وينبت الزرع ويحرك الأجرام ويمدد الكون منذ الانفجار العظيم.
أما العلويون في سوريا فقد قالوا أن عليا نسخة إلهية، وهي قضية عاقب فيها علي كرم الله وجهه في زمنه من قال ذلك بالحرق فقالوا نشهد أنه الله لأن الحرق يقوم به الله (هكذا يروى)، وحاليا فإن شبيحة سوريا يحرقون الناس في خان شيخون.
ومع مصرع الحسين نسي الشيعة محمدا ص فهم يحتفلون بكربلاء كل عام فيجلدون أنفسهم بالسواطير والسلاسل.
وفي العراق كان مقتل باقر الصدر المرجع والفيلسوف المشهور على يد صدام حسين سببا في تحويله إلى أسطورة أبد الدهر يشار له : قدس الله سره وأرخى ظله. والرجل ممن خلق من عباد الله الصالحين.
وبالمقابل فإن شانقه صدام حسين تحول هو والسبطين الكريمين قصي وعدي الى طيور الجنة يؤوون الى حواصل طير خضر لأنهم قاتلوا الأمريكان! كذلك أفتى البوطي السوري في مصرع ابن الطاغية في حادث سيارة متهور فقال عنه بأنه أصبح من طيور الجنة ولم ير البوطي الجنة ولا طيورها بعد حتى يحكم، كما لم ير جهنم؛ فلا نعلم أين أصبح ابن الطاغية؟
فهذه هي المسرحية الهزلية في التاريخ.
خرج من السجن (رشيد النيني) بطلا قوميا فيجب أن نشكر من كانوا السبب في منحه وسام البطولة.
وأهمية سجن رشيد النيني أنه لم يسجن لأنه قتل أحدا أو فجر قنبلة، بل لأنه قتل الخوف في النفوس فأحيا الضمير وهو أنبل ما في الإنسان، وصدع بالحق فيما يعتقد أنه يجب أن لا يسكت عليه؛ فكان سجين الضمير، لذا استحق بجدارة درع الضمير من منظمات عالمية.
السجن في العادة هو مكان اجتماع الأحرار لذا كان أول تهديد يتلقاه موسى من فرعون السجن.

لماذا التهديد بالسجن؟
لأنه يستلب الحرية وهي أجمل ما في الوجود لكل كائن ولو لقط ويعسوب ونملة ونحلة.
الحرية تعني الجولان في المكان، والسجن يعني تجميد الضمير قبل البدن، لذا هدد فرعون موسى بالسجن فقال: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين.
يلعب السجن دورا رادعا لكل ضمير أن يصحو فيدخل السبات رعبا، ولكل فكر أن يتنفس فيختنق هلعا.
السجن هو للحر ولمن حوله بدرجة أكبر.
إنه إعلان للمجتمع أن من يفكر يحبس؛ فإن زاد نفي أو قتل. فيجب امتطاء ظهر الخوف والسكوت في مجتمع أخرس.
من أراد أن يفتح فمه فهناك مكان واحد عند طبيب الأسنان. ليكشر عن أسنانه هناك ما استطاع.
السجن له وظيفة مثل أي مؤسسة. المشفى للعلاج. مشفى المجانين للعودة من السكر. السجن للتوبة عن كل تفكير وتصريح وبلاغ.
هكذا فعلوا بالأنبياء والمصلحين والفلاسفة ورواد النهضة فليس رشيد النيني استثناء على هذا القانون الاجتماعي.
غاندي حكمه البريطانيون ست سنين حبسا فدخل مبتسما كما فعل النيني، وكما فعل جواهر لال نهرو فكتب كتابه (من السجن إلى الرئاسة) وكذلك كلل النيني بتاج غير مرئي على رأسه أنه من أبطال الحرية لكل زمان فطوبى له وحسن مكان.