جرت في مايو 2012م انتخابات مجلس الشعب (عفوا مجلس القرود) في سوريا فكرَّر النظام إنتاج نفسه، كما في استنساخ النعجة دولي والفأر ماوس وسلسلة الثيران.
هذه المرة لبس رجال المخابرات أقنعة الفلسفة في كرنفال المحللين السياسيين الاستراتيجيين.
تم اغتيال الحرية من جديد باسم الشعب، ودخل (مجلس القرود) جوقة جديدة تكرس الوثنية وإلوهية الحاكم في سوريا.
في الاتجاه المعاكس تاريخ 15 MAY \ 2012 رأينا بؤس الفلسفة بتعبير كارل ماركس مع نموذج (البوق) الذي ينتجه النظام السوري.
إنها عينة رائعة للتحليل النفسي لنرى اختلاطات الهذيان وجنون العظمة وكل ألوان العصاب.
مأساة أخلاقية لتردي الإنسان وانتحار العقل.
مجلس الشعب في سوريا هل يمثل الشعب فعلاً؟
إنه سؤال يعرف جوابه كل عاقل لم يمت ضميره، أو بتعبير الجعفري من أبواق النظام نقلا عن جوته (باع روحه للشيطان).
يلعب الشيطان أحيانا لعبة مزدوجة؛ فيكرر نفس الكلمة باسم الملائكة.
يخطب في الناس يوم القيامة فيخرج على حقيقته فيتبرأ ممن اتبعوه.
يقول الشيطان: ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.
كل المظالم وقعت على الشعب باسم الشعب. وباسم الحرية ألغيت كل حرية تحت شعار كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب. وباسم الأمن أنشئت أجهزة الرعب. وباسم الثورة على الفساد قطع كل لسان ينتقد الفساد.
إن هذا يروي غرامنا السقيم بالكلمات وأنها لا تزيد عن توابيت جوفاء تشحن أو تفرغ بالمعنى حسبما نهوى، وأنه تحت الشعارات تغتال الحقائق (فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة) كما قال النيهوم. وأن الجمهور كما يقول الفيلسوف (كريكجارد) مارد هائل بقدمين من صلصال كالفخار.
ويؤكد التاريخ هذه الحقيقة فباسم الشعب اليهودي حكم (السنهدرين) على عيسى بن مريم بالصلب فرفعه الله إليه. وباسم الشعب الأثيني نفي (أرسطو) أعظم دماغ في عصره إلى آسيا الوسطى. وباسم الشعب في بغداد حكم على الحلاج بضربه بألف سوط ثم قطع لسانه وأطرافه قطعة قطعة.
وباسم القرآن حبكت أعظم خديعة في تاريخ السياسة فرفع على رؤوس الرماح في حق يراد به باطل لينشئ معاوية ملكاً عضوداً.
وباسم الشعب الفرنسي قطع على المقصلة رأس أفضل الناس (لافوا زييه) أبو الكيمياء الحديثة (كوندورسييه) الفيلسوف والرياضي المشهور ليقول لهم مجلس قيادة الثورة : (الثورة لا حاجة لها بالعلماء).
وباسم المجمع اليهودي لعن فيلسوف التنوير (سبينوزا) بأن لا يقترب منه أحد مسافة أربعة أذرع.
وباسم الشعب أرسل ستالين الى العالم الأخروي ستة ملايين فلاح بالمسغبة و 35 ألفاً من ضباط الجيش الأحمر وقضى على رفاق الثورة فرداً فرداً انتهاء بـ (تروتسكي) الذي لحقه الى المكسيك باستئجار شقي ضربه ببلطة على رأسه فانفلق. بحيث حقق للبلد استقراراً رائعاً أشبه بعالم القبور.
إنها نفس المأساة المكررة في سوريا مع وضعها في الثلاجة نصف قرن على يد آل الأسد. بعد أن تحول البلد إلى غابة وضاري وعصابة.
وفي العالم العربي وباسم الشعب تم ابتلاع الجيران وولادة ديناصورات الأجهزة الأمنية ورسوخ الاستبداد ونزيف الأدمغة مما جعل فيلسوفاً كبيراً مثل (عبد الرحمن البدوي) يسجل في سيرته الذاتية تحت عنوان ( اليأس التام ) ملاحظاته على الأوضاع تذكرنا تماما بما يجري حاليا في سوريا (يمكن مراجعة كتابه سيرتي الذاتية)
(يئست من كل شيء: حاكم طاغية وشعب مسلوب العقل والإرادة وطبقة متعلمة تتنافس في تملق الحكام. نعم قد يزول حاكم بعد وقت ربما يكون قصيرا لكن لن يتغير شيء كثير لأن داء الاستبداد قد تمكن من نظام الحكم فصار من العسير اقتلاعه. فحتى لو جاء حاكم جديد مستنير عادل فسرعان ما تلتف حوله حاشية من الانتهازيين كأعشاب العليق يضعون بينه وبين الحق والعدل حواجز بعد الحواجز ويملئونه غروراً حتى يصدق ما تقوله ألسنتهم الكذب. ومهما أوتي من صلابة الخلق فإنه عما قليل سيجرفه تيار الكذب بحيث يكون هو نفسه أول المصدقين.
وتبقى الصحافة ووسائل الإعلام كفيلة بإفساد ما تبقى وقلب المعاني رأساً على عقب؛ فإذا خطب خطبة تافهة قالوا (خطاب تاريخي)!! وإذا هدر بأوامر لا معنى لها صاحوا بصوت كهزيم الرعد (توجهات سامية)، وإذا تعطلت كل المرافق من مواصلات وتلفونات وكهرباء وماء وصرف صاحت الأبواق (رغم توجيهات) وكأن كل كلمة يقولها هي كن فلابد للشيء أن يكون أليس الحاكم بمثابة الإله الخالق ؟)
لينتهي إلى قرار اتخذه الآلاف بعد أن تحول الوطن إلى معتقل كبير فقال إني مهاجر الى ربي إنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه. وهو ما فعلته أنا فغادرت بلاد البعث إلى يوم البعث.
وهكذا ففي الوقت الذي تتدفق على إسرائيل العقول، نعاني نحن من نزيف الأدمغة، وحين تفيض عليها الأموال، تطير رؤوس الأموال من عندنا، في تقاطع متعاكس ونتيجة واحدة وكأنه عمل مبرمج وأمر دبر بليل. وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.
يرى (أتيين دي لابواسييه) في كتابه (العبودية المختارة) الذي صدر قبل أربعة قرون ونصف (1562م) أن الشعوب تسقط في قبضة الديكتاتورية بثلاث آليات:
ـ إما بالاجتياح الخارجي وهو بدوره تالي للتفسخ الداخلي.
ـ وإما بالولادة في ظلام العبودية فيستولي الإحساس على الناس أن طبيعة الحياة هكذا.
ـ وإما بالتحول التدريجي من الحرية إلى الرق كما يحصل في تدجين الحيوانات؛ فالخيل التي كانت تجمح براكبها تتحول مع الترويض إلى حصان يتباهى بسرجه واللجام. حيث أن العادة تجري مجرى قانون الطبيعة.
يضاف إلى ما ذكرنا عنصر مهم يلعب دوره في (تخدير الوعي) هو إيقاظ الغرائز والشهوات وبتعبير (الكواكبي):
(وأما ملذاتهم فهي مقصورة على جعل بطونهم مقابر للحيوانات إن تيسرت وإلا فمزابل للنباتات ومنحصرة في استفراغهم الشهوة كأن أجسامهم خلقت دملا على أديم الأرض وظيفتها توليد الصديد ودفعه).
ويورد (لابواسييه) قصة مثيرة عن (كسرى) مع (الليديين) حينما ثارت العاصمة (سارد) ضده فتفتق ذهنه عن حيلة رائعة بفتح:
(دور الدعارة والخمر والألعاب الجماهيرية) فكانت له من هذه الحيلة (حامية أغنته إلى الأبد).
ويذكر المؤرخ الأمريكي (ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) عن مظاهر سقوط روما أن الزعيم الوندالي (جيسريك) ذهل عندما افتتح قرطاجنة المسيحية (أنه لا يكاد يخلو ركن فيها من بيت للدعارة).
وحينما نقرأ تاريخ روما نعلم أنها كانت مخدرة على مدار السنة في 175 عيداً منها عشرة للمجالدين و64 للوحوش وما بقي في الرقص والطرب في دور التمثيل، كما في المحطات الفضائية السورية التي يشرف المطربون فيها والفنانون المرتزقة على صناعة الثقافة حتى مطلع الفجر.
وانتهز البرابرة فرصة انشغال الناس بهذه الألعاب فانقضوا على قرطاجنة وإنطاكية وترير (حين كان الأهلون منهمكين في مشاهدتها في المدرجات أو حلبات اقتتال الوحوش).
بهذه الأدوات من (المسارح والمساخر والمشاهد والمصارعين والوحوش الغريبة والميداليات واللوحات) أو ما تفتق ذهن الطغاة الرومان عن (موائد العشرات) للرعاع الذين انحصر همهم في لذة الفم يتم (تخدير الشعوب) و(تخنيث الأمم) حسب لابواسييه.
وهكذا بمجموعة من (الأدوات) يتم استعباد الأمم بين (السوط والحلاوة) كما عبر عن ذلك ضابط ألماني من جماعة الستازي (( STASI قام بتدريب الاستخبارات في سوريا على ما ذكرته مجلة (الشتيرن Stern) الألمانية؛ فمن جهة يتم تركيع الأمة بالخوف بجرعة رعب عالية، بالإضافة إلى تصفية البلد وتفريغه من كل رجل ذي قيمة كما ذكرت ملكة سبأ ( وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)، وتسليط سفلة الناس والأوغاد على رقبة الأمة كما وصف الكواكبي:(أن يكون أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا).
ويتم ربط الأمة كلها الى مقود العبودية بالنظام (السداسي) حيث يضم (معين خماسي) من الحاشية يحيط بالطاغية يوحون إليه زخرف القول غرورا، وقد يكونون تسعة كما في تعبير القرآن (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون). وكل واحد من الحاشية له ذيل من مائة من الأتباع. وكل واحد من الحلقة الجديدة له ذيل جديد من الأتباع يأتمرون بأمره وهكذا تتطاول السلسة إلى ما لانهاية.
تقوم هذه الشبكة الجهنمية بتصفية البلد وتفريغه تدريجياً من الروح بكل وسيلة بما فيها القتل (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولَّن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وأنا لصادقون).
وهذه هي الأدوات (الصلبة) الحادة لتقطيع الأمة.
أما المواد (المذيبة) فهي إشغال الغوغاء بظاهرٍ من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
وتبقى أقلية من المفكرين المشاغبين من (مقلقي النوم العام) يجب معالجة أمرها كما جاء في كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش) حيث خلَّده الضمير الشعبي كنموذج للغرابة.
ولكن لابواسييه يفاجئنا أن بلده مفرَّغ من العلماء وبهذه (الوصفة الثلاثية) يكتمل استقرار البلد مثل سكون المقابر. بين طبقة مثقفة مدجنة أو مهجَّرة، وغوغاء ترضع الشهوات، ونخبة حاكمة تفعل ما تشاء، في ظلام حالك إذا أخرج يده لم يكد يراها.
هذا ما فعلته عائلة الأسد في سوريا وحسب قوانين الفيزياء كان يجب أن تحكم حسب قوانين قصور المادة إلى الأبد كما كتبوا لأنفسهم ذلك في كل زاوية وركن من سوريا الحزينة.
وإذا أطبق الظلام وأحكمت الديكتاتورية قبضتها فهل إلى خروج من سبيل؟
ينبئنا المؤرخ (توينبي) أن قوانين الروح تختلف عن قوانين الفيزياء القاصرة.
كما يروي المؤرخ تحت قانون (الأقلية والأكثرية) أن الحضارات تبدأ بآلية التقليد من أكثرية تتهادى خلف أقلية مبدعة تقودها على أنغام مزمار الراعي.
وتنهار الحضارات حينما تتحول الأقلية إلى عصابة مسيطرة تسوق الناس بسوط الإكراه.
ويصف (لابواسييه) هذه القلة من الناس:
(آجلاً أو عاجلاً يظهر أفراد ولدوا على استعداد أفضل يشعرون بوطأة الغل فيهزوه هزا ولا يروضون أنفسهم على الخضوع ولم يكتفوا بما يفعل العامة بالنظر إلى موطيء أقدامهم. أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطبيعتها فزادوها بالدراسة والمعرفة تهذيبا. أولئك لو أن الحرية انمحت من وجه الأرض لتخيلوها وتذوقوها ولم يجدوا طعما للعبودية مهما تبرقعت).
إن الديكتاتورية شجرة خبيثة ترسم مصيرها منذ زرع بذرتها الأولى أنها ليست للبقاء لأنها ضد الحياة وهي تسقط في النهاية تحت ثقلها الخاص اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.
إن التاريخ يخبرنا أن هناك دورة ليس عنها محيص فكلما اشتد الظلام اقترب الفجر، وكلما ظهر الكمال على الطغيان كان إيذاناً بانبلاج الصبح، وعندما يكتمل القمر كان معناه أنه سيصبح مثل العرجون القديم.
هذا ما يحدث في سوريا اليوم؛ فالثورة هي قدر التاريخ، ولقد تغيرت سوريا إلى غير عودة ولسوف ترمي بالديكتاتورية إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليها.
ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا. يوم تستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا.
لقد قامت القيامة في سوريا وزلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الناس مالها؟
- آخر تحديث :
التعليقات