بتاريخ 14 نوفمبر 2011م أزهقت أرواح 69 شخصا في ذروة الاحتجاجات الشعبية ضد النظام الاستبدادي في سوريا، بعد أن نمت شجرة الطغيان فأصبحت شجرة باسقة من أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين، في تسع عشرة رأس أمني مثل تنين الأساطير.
اعترف للقارئ أنني أصاب بالدوار حين أرى التركيب الهيراركي للدولة ومسألة استبدال النظام، وأقول لولا هذه التركيبة المشئومة للدولة لما مات هؤلاء؟
إنها المسألة السياسية وفلسفة ولادة الدولة.
لقد تتبعت المسألة نوعا ما فأضيء لي منها نور خفيف.
رأى الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل BERTRAND RUSSEL) في كتابه (السلطان THE POWER) أن جذر المشكلة الإنسانية هي في التناقض الصعب بين فردية يحافظ عليها الإنسان ولكنه يعيش ضمن مجتمع؛ فالنحل والإنسان يعيش كلاهما اجتماعياً.
النحلة تتفاهم مع الأخرى برقصة محدودة، والبشر يتفاهمون باللغة.
النحل ينسى فرديته في الخلية، والإنسان يحافظ على فرديته ضمن الحشد. النحل باعتماده الرقصة كنظام لغوي مغلق، وذوبان فرديته، يكرر إنتاج نوعه بدون تطور؛ فمجتمعات النحل والنمل لم تحقق أي قفزة تطورية منذ مليون سنة، والمجتمع الإنساني الذي يعتمد اللغة كنظام مفتوح، ويحافظ الإنسان على فرديته ضمن القطيع يكتب لنفسه التطور (DEVELOPMENT) والتغير نحو الأحسن في رحلة لا تعرف التوقف.

جذر المشكلة الإنسانية
جذر المشكلة في المجتمع الإنساني عن مجتمع النحل أن الفرد يعيش في الجماعة وكأنه ليس منها بالمحافظة على الفردية، والنحلة تنسى نفسها وتذوب فرديتها، ومن هنا تنشأ المتاعب في المجتمع الإنساني، وعند هذه النقطة المحيرة انعكست عبقرية الأفراد على تطور المجتمع، فالمجتمع يدين بتغيره الدائم إلى تمرد الأفراد وشذوذهم العبقري، ولكن مخاضاً من هذا النوع ترافق مع الدم والعنف؟zwj;!
ولادة الإنسان الرحمية نازفة ولكن هل تطور الإنسان يجب أن يرسم بخطوط دموية؟
إن نظرية انثروبولوجية لقراءة مسيرة الإنسان وفلسفة ولادة الدولة، هامة لإلقاء الضوء على قصة من هذا الحجم المثير!!
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟
لنحاول فهم كيف تم خلق الدولة وولادتها في التاريخ؟ ولماذا دشنت الحروب؟ وانفجرت النزاعات الأهلية؟

بزوغ فجر الدولة
اعتمد الإنسان الأول طريقة التعامل مع (الفريسة) على مبدأ المطاردة والقتل؛ ثم انتقل بتطبيق هذه الطريقة على أخيه الإنسان فبدأت (الحرب) عملياً، واستدعت تأسيس (مؤسساتها) الذكورية لاحقاً، ببناء أجهزة خرافية للجيوش والأمن والأسلحة.
وكانت الحروب مسلاة وملهاة الملوك كما يقول المؤرخ توينبي!
الكولوسيوم كان مكان الألم والموت للمجالدين والفرح والمتعة لنساء روما
كان بناء الدولة أحد الخيارات الصعبة أمام الإنسان؛ فعندما شق طريقه إلى (الثورة الزراعية) تحرر من الخوف من الموت جوعاً، بتحقيق فائض الغذاء، وهذا دفع البشر إلى التجمع أكثر وبناء المدينة، ونشوء التخصصات، وبزوغ فجر الدولة ؛ فلم يعد هناك حاجة أن يعمل الجميع في ركض متواصل طوال النهار لقنص فريسة أو اصطياد سمكة.
هذا الحنين إلى الصيد الذي مارسناها في الطفولة، هو من بقايا الذاكرة الجماعية القديمة لمجتمع الصيد، والحرب هي من مخلفات ذلك العهد أيضاً.
كانت الدولة في أحد حديها جيدة؛ فمن (داخلها) حرَّرت البشر من الخوف من بعضهم، باحتكار العنف ضمن حدود هذه الدولة في يد السلطة أياً كان شكلها، على ما شرحها أرسطو قديماً في كتابه (السياسة)، ولكنها أفرزت أمرين كريهين: طغيان الدولة، وبرمجة الحروب مع الكائنات التي تشبهها أي الدول الأخرى.
تستطيع الدولة ضبط الأفراد ولجمهم وحل مشاكلهم ولو تطلب ذلك التدخل المسلح وسفك الدم وإزهاق الأرواح، وهو ليس كذلك في صراع الدول.

توقف صراع الأفراد واستمرار حرب الدول:
إذا كانت قصة (ولدي آدم) في القرآن قد أعطتنا نموذجاَ دموياً من جهة عندما أجهز أحد الأخوين على الآخر (فطوَّعت له نفسه قتل أخيه فقتله) لمجرد أن الآخر نجح في عمله، فانتقم الفاشل بتدمير الناجح، كذلك كان النموذج مشرقاً حين عرضت القصة نموذجاً جديداً لإدارة الصراع الإنساني بتحمل الألم بدون الرد عليه، بما فيه الوصول إلى درجة استقبال الموت.
قصة (ابن آدم) ترميز بالغ مثير للضمير، أن الشهيد أعلن عن موقفه بصراحة أنه غير مستعد أن يقتل لكنه مستعد أن يموت مقتولاً، في مراهنة عجيبة من نوعها كسب فيها الرهان بعد موته، حين ندم القاتل واعترف بخطئه؛ فتبنى موقف أخيه المقتول، وبذلك كانت بذرة الشهادة حية لا تموت كما جاء ذلك في القرآن (بل أحياء عند ربهم يرزقون).
هذا الأسلوب يراهن على آلية نفسية خفية هامة لا نتفطن إليها في الصراع، فنحن نعتبر خصمنا شيطاناً رجيماً، وليس إنسانا يمكن أن يستيقظ عنده الضمير، بأسلوب تضحية من هذا النوع.
الأسلوب السلامي رخيص التكاليف لو تفطنا إليه، ولا يعني أنه لا يوجد معاناة، أو أن الطريق مريح ولا يحتاج لتدريب، ولكنه طريق اقتصادي ونفعي للغاية، ويحتاج إلى تدريب كما في الثكنات العسكرية، ولكنه تدريب بدون أسلحة ودماء؛ بل تدريب الإرادة أن تلجم الغريزة إلى أبعد الحدود، وتنشيط الضمير لعدم الحقد على الخصم، مع الاستعدادات المختلفة لحماية البدن، في حالة توجيه إذيات إلى الرأس أو المناطق الخطيرة من الجسم، كما فعل غاندي في تدريب أتباعه على مواجهة الخيل المهاجمة، أو في ضرب العصي على الرأس، ولكن ميزته أن الأطراف المتصارعة تولد منه بدون حذف أحد الطرفين، في تعانق أخوي حبي، ويتوقف الصراع بدون حقد. بهامش يتسع للجميع. واعتراف متبادل صحي بين الطرفين.
الصراع الدموي يقوم على إلغاء أحد الطرفين الآخر بضربة كلية ماسحة شاملة، بكل ذيولها النفسية المرضية.
هذا الموقف الرائع بين الأفراد لم يطبق بكل أسف في صراع الدول، حتى تلك التي تدين بنفس الثقافة والدين، ورأينا ذلك في صراع الدول المنطقة من نماذج شتى، أو حين انجراف البلد الواحد إلى تفجره بالحرب الأهلية. الذي حدث بين الدول أنها لم تتبنى موقف ابن آدم المقتول؛ فنشبت الحروب ولم تتوقف إلا بتطور السلاح النووي ودخول العصر الذري، حينما أدركت الدول أن خوض الحروب غير رابح إطلاقاً.

الفيلسوف (كانط KANT) يرسم تصميماً للسلام الدائم
الجدلية الصعبة والتحدي الأعظم حتى اليوم هو في رسم علاقات الدول. الدولة تستطيع ضبط الأفراد ضمن حدودها، ولكن من يضبط الدول في علاقاتها مع بعض؟
معضلة صدام الدول الذي لا يعرف التوقف تحت دعوى السيادة عالجه الفيلسوف الألماني (ايمانويل كانت IMANUEL KANT) في كتابه (نحو السلام الدائم ZUM EWIGEN FRIEDEN) في القرن الثامن عشر، وصمم نموذج بدائي (لجمعية الأمم المتحدة) ولكنها فكرة احتاجت قرنين حتى استوت، وشعرت جميع دول الأرض بأهمية بناء مؤسسة دولية تتدخل في نزاعات الدول، تمهيداً لبناء دولة كونية عادلة، تمنح العدل للجنس البشري، وتلغي الحرب، وتلجم صناعة السلاح، وتوقف المجاعة.
وتشكل جيش صغير جيد التدريب، سريع الحركة، للجم العنف في أي مكان على ظهر الأرض، فالعنف سوف يستمر بين البشر بقدر انخفاض مستوى ثقافتهم، وكذلك عدد السكان بدون روح مسؤولية تجاه مستقبلهم.
ارتفاع مستوى الثقافة والرفاهية سوف يتدخل في لجم معدل الولادات وتنظيمها، وارتفاع مستوى الثقافة سوف يلجم آليات العنف، بسبب العلاقة العكسية بين القوة والفكر.
سجلت الإحصائيات الديموغرافية للانفجار السكاني في العالم انكساراً ملحوظاً للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري، فحسب الإحصاءات التي نشرتها مجلة الشبيجل الألمانية في مطلع عام 1998 م (العدد 4 في 19 يناير) تبين أنه بين عامي 1980 م و1995 م انقلبت الأرقام في عدد أفراد العائلة في (سوريا) مثلاً من متوسط العدد 7,4 أفراد للعائلة الواحدة إلى 4,7 فرداً، وفي الهند من 4,5 إلى 3,4 وفي تركيا من 4,4 إلى 3,4.
نفس الشيء يحصل الآن في انقلاب المفاهيم تجاه مؤسسة الحرب فتحولت كما قال الشاعر العربي قديماً (امرؤ القيس) من فتاة مغرية إلى عجوز شمطاء مكروهةً للشم والتقبيل؟
كانت حكمة الشاعر العربي كونية اختراقية للمستقبل، صيغت بألفاظ الأدب، ولكنها تحمل كل عمق الفلسفة، وتنبؤات المستقبل، وحمل الإنسان إلى شاطيء السلم مكرهاً على جناحي العلم.
العقل يعمل بغير طريقة العضلات، وفتح باب مغلق بذكاء لا يحتاج أكثر من سلك، ولكن العنف يمكن أن يفتحه بتحطيمه.
لم يكن التحطيم يوماً فتحاً بحال.....

بين فوضى الغابة وطغيان الدولة !!
كان الخيار صعباً أمام مجتمع المدينة بين فوضى الغابة وطغيان الدولة. إذا كانت وظيفة الدولة تحرير الأفراد من طغيان بعضهم على بعض، وجعلهم يتمتعون بالحياة، بالقفز إلى مجتمع الحضارة، إلا أنها وظيفة خطيرة في يد السلطة تصل إلى درجة الإلوهية، واستعباد رقاب البشر، لذا جاء الأنبياء في التاريخ لتحرير البشر، من كل أنواع العبوديات بما فيها طغيان الدولة.
جرعة (العنف) في الدولة والحجم (المكافئ) من مؤسسات (الأمن الداخلي) جعل الدولة رحمةً للعالمين، وبقدر كثافة جرعة العنف ضد الأفراد داخلياً، تتحول الحياة إلى جحيمٍ لا يطاق، يحرض الأفراد على الهرب منها، بالهجرة لمجتمع آخر كما نرى في زحف عشرات الملايين من اللاجئين السياسيين في العالم اليوم، أو تفضيل الرجوع إلى حياة الغابة، وفي قصة (أصحاب الكهف) نموذجاً لهذا الهرب والخلاص الفردي.
إذا استطاع الذكاء والجهد الإنساني أن يحول طغيان الدولة مع الوقت إلى حكومات شعبية شوروية، فإن المراهنة أن ينجح الإنسان في بناء مجتمع كوني يحترم فيه كل الناس بغض النظر عن الجنس واللغة واللون والعرق والانتماء الثقافي، و بها تختم مرحلة من التاريخ الإنساني، يتضور فيها البعض من الجوع، ويعاني فريق من التخمة وزيادة الوزن، بتأميم الحرب والمجاعة الى غير عودة.

نحو إلغاء حق الفيتو ؟
الدولة القطرية بـ ( احتكارها العنف ) حققت الأمن داخلياً، بإيقاف النزاع بين الأفراد والدولة العالمية ستقوم بنفس الدور بإلغاء الصراع المسلح بين الدول، في وظيفة ( دولة ) للدول في تحقيق إنساني لنشر السلام عالمياً، وهو هدف بدأ الجنس البشري بالاقتراب منه، في تدشين المنظمات الكونية مثل جمعية الأمم المتحدة واليونسكو ونظام البريد العالمي.
وفيما يتعلق بمجلس الأمن وحق الفيتو فيه فهو يمثل خللاً كونياً في تحقيق العدل العالمي، وولادة مشوهة للعالم كنتاج للحرب العالمية الثانية، وبناء العالم على أساس طبقي وعلاقات القوة، عندما وضع مصير العالم في يد خمس دول تحتكر القرارات المصيرية إنفاذاً وتعضيلاً.
لم يطلب أحد في العالم بإلغاء هذا الحق، الذي ليس بحق، إلا دول عدم الانحياز، واليوم تحاول بعض الدول بعد أن فاحت رائحة العفن من مقاعده الراكدة، أن تلجأ إلى حل المشكلة بظلم أعظم، عندما تحرص على توسيع حلقة القوة، بنقلها من خمس أيادي إلى سبعة، بإضافة كرسيين جديدين إلى نادي مالكي القوة في العالم، بإدخال خصوم الماضي اليابان وألمانيا إليه.
العدل لن يحل بإضافة كراسي جديدة إلى هذه الحفلة الهزلية بل إلغاء الحفلة كلها، ليس بإضافة كراسي جديدة؛ بل إلغاء كل الكراسي، وإقفال بوابة هذا النادي الظالم، والبدء برسم خارطة جديدة لقدر الإنسانية وإرساء العدل الكوني ؛ فلا يعقل أن يكون بلد مثل الهند بمليار من البشر، لا يوازي خمسين مليون من البريطانيين، يجلسون على كرسي دائم في مجلس الأمن، كما لن يحل الإشكال بإضافة دولة وحذف أخرى، بموجب علاقات القوة وامتلاك البوارج وحاملات الطائرات.
لابد من تعديل الصيغة الكونية، وبناء العالم على أساس جديد، خالي من محاور القوة والاستكبار والاستضعاف.
رأينا نموذج مجلس الاستكبار هذا في معالجة الأزمة السورية بعد قتل الآلاف وروسيا والصين تبيع لهم المزيد من السلاح وتقول لا فيتعطل ويتعضل العدل في العالم ويدفع ثمنه آلاف الشهداء من دمهم في سوريا.

الفلسفة والشعر والعلم
كانت أبيات الشاعر العربي القديم موجزة جميلة معبرة عن جدلية الحرب؛ فبقدر حماس الناس وتصفيقهم لها بدايةً؛ بقدر ظهور قباحتها وبشاعتها لاحقاً.
إنها كالفتاة رائعة الجمال، أو هكذا تبدو في البدء، لينكشف الغطاء وتذوب مساحيق التجميل، ويتساقط الشعر المستعار، ويظهر كل شيء على حقيقته.
هذه هي حقيقة الحرب معبراً عنها بلغة الشعر:
أول ما تــــكون الــحرب فُتيةٌ تسعى بزينتها لكل جهـــول
حتى إذا حميت وشب ضرامها غدت عجوزاً غير ذات حلـيل
شمطــاء جزت شعرها وتنكرت مكروهــة للشـــم والتقبــــيل
لقد سبق الشاعر اختراقات العلم أكثر من ألف عام، ومن يريد فهم العالم برؤية السيف وعقلية الفتوحات ينقلب إلى الخلف ألف عام.
هذا المنطق لاستخدام القوة في وجه الشعوب التي تطلب الحرية هو تماما منظر الواجهة السورية مع نوفمبر 2011م.