(ممارسة القوة تعتمد موافقة المحكومين وفي اللحظة التي يرفضون الطاعة يسقط الطاغوت ولاحاجة لقتله)

كانت الليلة التي ألقي فيها غاندي من القطار في جنوب أفريقيا حاسمة فقد تجرأ وهو (الملون) على ركب قطار الدرجة الأولى المخصصة للبيض. يذكر غاندي ذلك في كتابه (تجاربي مع الحقيقة) ويقول إنه تكور على نفسه في تلك الليلة يتأمل الظلم الانساني وهو مطوق بالوحدة والغربة والظلام والبرد.
وفي هذه اللحظة من الانهيار والحصار النفسي التمع في سماء فكره بريق لحظة العبقرية وتغير الرجل وغيَّر العالم.
إن المواقف الصعبة هي التي تشكلنا خلقا من بعد خلق. وهناك من آتاه الله الحكم صبيا وهناك من يبلغ السبعين وهو بعد مراهق. فالعمر ليس بوحدات الزمن بل بامتلاء الخبرة بلحظات المواجهة الساخنة التي تنقش على الأعصاب ذاكرة لاتمحى.
ولقد خلقنا الانسان في كبد.
وليس غريبا أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة على شكل كتاب نظري (جملة واحدة) كما طلب القرشيون بل كان ينقش قوانينه على ألواح القلب.
كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا.
طوَّر (غاندي) أسلوب فعال في مقاومة الطغيان وقام بتجاربه الأولى في جنوب أفريقيا كما يفعل أطباء المخابر قبل نقلها الى القارة الهندية فدرب الجماهير على (العصيان المدني) من أجل كسر القانون الظالم بعدم الطاعة له. إنها وصفة رخيصة قليلة التكاليف مباركة النتائج يمكن لكل شرائح الأمة ان تشارك فيها.
وتشكل آلية ناجحة للمقاومة ضد أي لون من الطغيان خارجياً كان أم داخلياً لإن الحرية لاتتجزأ. وأهم مافيها ولادة جديدة للأمة محررة من مركب (الاستضعاف ـ الاستكبار).
فلايستبدل طاغوت بطاغوت. والذي حصل في العالم العربي عندما استقل أنه تعرض في كثير من أجزاءه الى طغيان فاق أيام الاستعمار مما يحكي عمق الأزمة الداخلية والقصور السياسي و(القابلية للاستعمار) التي مهدت منذ فترة طويلة لمجيء الاستعمار واستبدل الاستعمار الخارجي بالداخلي لأنه لم يتخلص بعد من مرض القابلية له فهذا هو جوهر الاستعصاء السياسي في العالم العربي.
والصحافة اليوم تعني باخبار زيارات الحاكم أكثر من بؤس الفقراء. والتعددية الحزبية لاتزيد عن ديكور سياسي، واختفت المظاهرات العفوية الجماهيرية، وتراجعت حرية الفكر عما كان عليه في الخمسينات.
ويزندق أناس لكتب خطتها أيديهم قبل عشرين سنة.
لقد أدرك (أتيين دي لابواسيه) منذ عام 1562 م عندما كتب (العبودية المختارة) أن مشكلة الطغيان هي أننا نحن الذين نكونه ونعطيه شرعيته وفي اللحظة التي نكف عن طاعته يسقط بقدمين من صلصال كالفخار ولاحاجة لقتله.
وهي التي اشار إليها ( جين شارب) في كتابه (سياسات اللاعنف NONVIOLENT ACTION) عندما وضع يده على (جوهر اللاعنف) أنه (الإيمان بأن ممارسة القوة تعتمد على موافقة وقبول المحكومين ومن ثم فبمقدور هؤلاء المحكومين السيطرة على قوة خصومهم بل وتدميرها إذا هم سحبوا موافقتهم هذه).
يذكر (خالد القشطيني) في كتابه (نحو اللاعنف) عن الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) أنه رفض الاشتراك في الحرب العالمية الأولى بقوله:(إذا استعمل شعب بأسره المقاومة السلبية بإصرار وإرادة عازمة وبنفس القدر من الشجاعة والانضباط اللذين يظهرهما الآن في الحرب فبإمكانها أن تحقق حماية أكبر وأتم لكل ماهو جيد في الحياة العامة مما تستطيع أن تحققه القوات البرية والبحرية وبدون أي من تلك المجازر والخسائر ومشاهد القسوة التي ترتبط بالحرب الحديثة).
إن القرآن ولد هذا المعنى بتكتيك ثلاثي:
(أولا) المسؤولية في الآخرة فردية. ولن يكون هناك شفاعة أوعدل ولو كان ملء الأرض ذهبا والتابع والمتبوع في خط الطغيان يلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار. وهي مشكلة ناقشها القرآن في ثماني مواضع تحت عنوان المستكبرين والمستضعفين.
(ثانياً) بأنه لا أحد له سيطرة على الانسان بما فيها الشيطان (إنه ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين) أي أن (الاستعداد) للظم هو الذي يهيء لكل أنواع الظلم.
و(ثالثاً) إن تدمير الباطل ليس بقتله بل بعدم طاعته أوالتعاون معه.
كل مايحتاجه الموضوع هو جماهير تثق بقيادة كارزمائية صادقة وتدريب جيد على ممارسة اللاعنف ورؤية واضحة للأهداف وتكتيكات ناجحة كما فعل (غاندي) من التخلص من الملابس البريطانية باختراع فكرة (المغزل) أو (بمسيرة الملح) لكسر احتكار بريطانيا له.
كل ذلك في جو أخلاقي منتحلي النفس بالصبر على الأذى.
وهذا كان زاد الأنبياء (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولامبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين).
ولقد كان ذلك في متناول الخميني في حربه ضد العراق فكان يمكن أن يأمر مليون انسان من كل الأعمار ومن الجنسين مع حضور صحفي العالم وبنفس أسلوب (الاضرابات والمظاهرات) بالمقاومة اللاعنفية التي أسقط فيها الشاه أن ينجح في التحدي الجديد.
ولكن التورط في الحرب أضاع كل شيء في ثماني سنوات عجاف ووضع الغرب أقدامه في ماء باردة وانتعش تجار السلاح ومنتجوه.
ودخل الخميني الحقل الذي يفقد فيه السيطرة على الأقدار حيث الأسلحة المتطورة وحيث تحيد قوة الجماهير.
أرسل لي شاب يعبر عن صعوبة استيعابه لفكرة اللاعنف أو الكفاح السلمي ضد الاحتلال الاسرائيلي. لقد كانت الفكرة نصف مستساغة في مقاومة استبداد الأنظمة العربية أما الصراع ضد الصهيونية فلاينفع معها الا مقارعتها بالسلاح.
قال الشاب إن (فرق الكمون في القفز بين فكرة (العنف) وأخرى (كاللاعنف) دائماً كبيراً مما يولد تيارا شديداً يصعق المتخطي).
هذه الإشكالية تجعل البحث مليئاً بالأفخاخ وأنا اعترف أن البحث لم يكن سهلاً حتى تبللور عندي ووصل الى حالة التألق ولذا كان من المناسب أن نفك هذه الاختلاطات بشرح ذو مفاصل يعتمد أدوات بحث معرفية تستفيد من حزمة من العلوم المعاصرة مثل علوم النفس والاجتماع والتاريخ والتكنولوجيا والانثروبولوجيا.
ولكن هل العنف بيولوجيا أم ثقافة؟
إذا وظفنا علم النفس والفيزيولوجيا (علم الغريزة) لفهم ظاهرة العنف الانساني فهي كما قال (بيير فيو) في كتاب (المجتمع والعنف):
(العنف ليس حادثاً عابراً مؤسفاً من حوادث السلوك الإنساني بل هو يندرج في وضع مألوف من التوترات والمجابهات. فالعلاقات الانسانية تقوم على أرضية من الصراع والتناقضات وعلائق القوى. والعنف يكمن فيها كتهديد دائم وهو ينفجر أحياناً كالبركان تحت ضغط نار داخلية لايخمد لهيبها على الإطلاق). وفي الواقع فالانسان كائن محير تتعايش فيه أنبل التطلعات وغريزة الموت والتدمير.
وهو ماأشار إليه (فرويد) في كتابه (أفكار لأزمنة الحروب) عندما كان يراسل آينشتاين بقوله:
أن الانسان تتنازعه غريزتان الحياة (الليبديو LIBIDO) والموت (التانتوسTANTOS).
ورأى الفيلسوف الفرنسي (باسكال) تحت فكرة (النهايتان) هذا التناقض المحير في اجتماع التوحش والنبل في الانسان وأنه مكان القداسة بنفخة من الله ولكنه بالوعة الضلال ومكان الإجرام.
وقف باسكال في النهاية ليقول من يحل لنا هذا اللغز؟. هناك شيء لاعقلاني داخل الانسان ينفجر معبراً عن نفسه بالعنف.
ويمثل العنف أحد ثوابت الفعل والتاريخ الانساني. وعندما درس (غاستون بوتول) في معهده الذي أنشأه لدراسة (ظاهرة الحرب) التي تفتك أكثر من كل الأمراض رأى أنه خلال 3500 سنة من التاريخ الانساني كانت كل 13 سنة من الحروب تقابل بسنة سلام واحدة.
أما الماركسية فرأت تجلي العنف أنه شيء طبيعي بسبب (الصراع الطبقي) ودعت الى العنف (الثوري) فكما رأى ريكاردو في قانون (الأجور الحديدي) وعبر عنه (آدم سميث) في كتابه (ثروة الأمم) أن تحديد الأجور والعمال هي سلعة تخضع للعرض والطلب في سوق لاترحم فقد وصل (مالتوس) في مقالته حول تكاثر السكان (الهندسي) الذي لايوازيه تكاثر الغذاء (الحسابي) أن الحرب والمجاعات في النهاية هي تحصيل حاصل ولذا فالعنف عنصر أساسي في الاقتصاد الانساني.
أما (دارون) فرأى أن صراع البقاء يقوم على العنف والطبيعة تظهر لنا أن القوي يأكل الضعيف.
ومن هنا أشار (علي الوردي) في كتابه عن (الطبيعة البشرية) أن العقل لايبحث عن الحق كما يزعم بل لايزيد عن آلة لصراع البقاء مثل الأنياب للسبع والقرون للثور والناب للأفعى.
ولكن متى يحدث العنف في الوسط الانساني؟
يبدو أن أكثر الأوضاع التي تفجر الثورات عندما يمس الانسان في ثلاث وجوده وسلامته وكرامته أي ممارسة حقوقه الأساسية ذات الطبيعة المدنية أو الاجتماعية أو الفلسفية. وهناك قانون هام أن من يشعل الثورات ليس اكثر الطبقات الاجتماعية حرماناً ومن يخلع عنه نير الاستعمار ليس أكثر الشعوب تخلفاً وإذا هبط الانسان الى مادون عتبة دنيا من الطاقات الجسدية والتطور الثقافي يستسلم لما يحل به من تدهور هذا إذا تسنى له أن يعي هذا التدهور أو أن يلاحظ ماينزل به من أشكال البتر وهذا يكشف تحكم الديكتاتورية بالشعوب الى أجل مسمى.
لو حاولنا أن نضع تحديدا واضحاً للعنف واللاعنف فيمكن أن نقول أن نقول أن العنف هو الاستخدام المكثف غير المشروع للقوة وهو طيف من الاحتمالات تبدأ بالكراهية وتمر باللفظة السامة وتنتهي بالعمل الفيزيائي من الضرب باليد وانتهاء بالصاروخ النووي.
أي أن العنف يبدأ من (المشاعر السلبية) ليظهر على تعبيرات الوجه من النظرات الحاقدة ثم يطفو على اللسان باللفظ السيء من سخرية واستخفاف ولمز وشتم ثم يتطور الى العنف الفيزيائي فيستخدم أطراف الصراع أيديهم بالضرب أو يمدون أيديهم الى السلاح بدءً من الحجر وانتهاء بالسلاح النووي.
كما يقول عالم النفس التحليلي (سكينر) في كتابه (تكنولوجيا السلوك الانساني) أن (الحروب إنما تبدأ في عقول الناس وأن هناك شيئا انتحاريا في الانسان ربما غريزة الموت يؤدي الى الحروب).
وبالمقابل فإن اللاعنف يختصر بجملة قصيرة هو ان نحقق مانصبو إليه بدون إيذاء الآخرين على أية صورة. وهذا يعني أن عالم اللاعنف هو فضاء معرفي كامل وليس تكتيكاً استسلامياً رخيصاً وبلاهة سياسية. العنف يتظاهر بأربع سمات: التدمير والتوقف عن الحوار واعتماد العضلات وإسكات العقل وأخيراً انتصار الغريزة.
وله ثلاث نتائج مأساوية: (معنوية) بالخوف واليأس والبؤس. و(مادية) بالأذى والتحطيم والإفساد في الأرض أو كما راهنت الملائكة على آدم فاعتبرته أنه مفسد في الأرض يسفك الدماء (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟).
وأخيرا (بنيوية) بالنظم السياسية القاهرة والحرمان الاقتصادي.
ولكن جواب الله أن هذا الكائن أمامه رحلة تطورية اجتماعية أعمق منها بيولوجية وستة آلاف سنة من الحضارة ليست بشيء أمام رحلة الانسان على الأرض منذ خمسة ملايين سنة.
كان الانسان قبل عشرة آلاف سنة يأكل الوحوش والوحوش تفترسه ولكن ماذا ينتظره بعد عشرة آلاف سنة؟ قال الله إني أعلم مالاتعلمون.