جدوى المقاومة المدنية (1)
في اجتماع القمة العربي بمناسبة الانتفاضة في خريف 2000 للميلاد علقت مجلة (در الشبيجل) الألمانية على اللقاء بقولها إن اسرائيل لم تعر أحاديث السياسيين وزناً فلا تزيد عن ضرب من البلاغة المنمقة. وهناك قدر من الخطر في الانتفاضة.
أما الخطر الأعظم فهو من عرب اسرائيل ماقبل عام 48 لإن عددهم يصل الى المليون وهم داخل أحشاء اسرائيل بمثابة المغص القاتل. ولكن لماذا لا تقيم اسرائيل وزناً لكل تصريحات السياسيين العرب وتخاف من عرب اسرائيل الهادئين حتى الآن وتنتفض هلعاً من الانتفاضة؟
والجواب أن الحروب مع الجيوش العربية النظامية ممتعة ومسلية فهي تعتمد الأسلحة المتطورة وتشبه لعبة الأتاري عند الأطفال وكل ماتحتاجه كبس الأزرار والتحديق في شاشة تلفزيونية.
ورأينا ذلك بأم أعيننا في حرب الخليج الثانية وشاشة الـ CNN تعرض علينا تدمير الآلة العسكرية العراقية التي دفع فيها العرب مئات المليارت من الدولارات.
وتعرف الأنظمة العربية عين اليقين أن لاطاقة لها اليوم بالتنين النووي الاسرائيلي لذلك لم يفكر أحد على شكل جدي في شن حرب جديدة.
أما يقظة الشعوب واعتماد سلاح (المقاومة المدنية) فهو سلاح (استراتيجي) أخطر من كل السلاح النووي.
هناك من يحاول إجهاض الانتفاضة السورية بتغيير طبيعتها ونقلها من مستوى (المقاومة المدنية) الى (المقاومة المسلحة) كما تندس حبات الرمل بين أقراص محرك الساعة.
ولن تكون مقارعة أنظمة الطغيان بالسلاح إلا صورة مصغرة من مهزلة الجيوش العربية في حروبها مع اسرائيل.
وبعض السياسيين يحنون الى هذا الغرام القديم من استخدام القوة المسلحة.
ولكن أخطر مايواجه الانتفاضة أن ترمى أسلحة (داوود) القديمة وتدخل مطب خرافة التسلح والدخول في حرب عصابات وشوراع مع النظام ويمكن أن يطحن الانتفاضة بالدبابات وبوقت قصير وبمبرر قوي وقبول عالمي.
ولأن العقل العربي غائب عن مجريات أحداث التاريخ لم يدخل المعاصرة بعد فإنه يتلمظ لبناء السلاح النووي كما قالت بنو اسرائيل لموسى عندما جاوز بهم البحر اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
يبدو أننا لم نستفد بعد من دروس أطفال الحجارة. وأن (داوود الجديد) يمكن أن يفعل أكثر من كل أحلام السياسين وأبعد من كل الاتفاقيات الدولية. وهذا الكلام ليس غيبياً أسطورياً بل واقعاً مشاهداً.
لقد سبقت عفوية الأطفال تفكير السياسيين. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون.
إن كل قوة الانتفاضة هي في المحافظة على روح المقاومة المدنية والجهاد اللاعنفي.
هل يستطيع السوريون أن يدربوا أنفسهم أن يموتوا ولايقتلوا أحداً فيربحوا المعركة أخلاقياً ودولياً وإعلامياً؟
ولن تكون التضحيات بقدر ما وقع ولا الخسائر المادية بأكثر.
أنني أتوقع أن يقول الكثير إن هذا لشيء عجاب ماسمعنا بهذا في الملة الآخرة، ولكن مقتل الطفل (محمد الدرة) هز الضمير العالمي أكثر من كل الحرب الأهلية اللبنانية ومذابح الجزائر.
لقد ضاع مقتل الدرة في هدير قتل اليهود بعد ذلك وإلقاء جثثهم أو تفجير الباصات.
إن تكرار مشاهد من نوع الطفل (درة) يجعل اليهودي يقف أمام ضميره وهو في النهاية انسان مضلَّل من الصهيونية. كما سيحرك ضمير العالم أكثر من كل تحركات السياسة والسياسيين لو كانوا يعقلون.
إنها أساليب الأنبياء صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة. كنت فيما سبق من مقالاتي قد وصلت الى بللورة فكر (اللاعنف) كأسلوب لولادة (الديموقراطية) في العالم العربي فلا يمكن أن تنمو تعددية أو تزدهر الحريات أو تولد حرية التعبير عن الرأي بدون سلام اجتماعي.
ولكنني أكتشف اليوم أن هذا الأسلوب يمكن تطبيقه بنجاح وفعالية ضد الاحتلال الصهيوني كما هو ضد أنظمة الطغيان في عالم العروبة.
وتبقى (المقاومة المدنية) الأسلوب الانساني الذي يحافظ على جميع الأطراف ويحرِّر الانسان من عبودية القوة.
إنه أسلوب نبوي أثبت فعاليته ضد الشاه ونظام السافاك في درس الثورة الإيرانية. كما هو قوي المفعول ضد قوة الاحتلال الاسرائيلية والأنظمة الشمولية، وهو اقتصادي ولايكلف كثيرا وقد حاوله الفلسطيني (مبارك عوض) عندما أسس (منظمة اللاعنف العالمي) وتخلصت اسرائيل بسرعة من (عوض) قبل أن ينضج اتجاهه لمعرفتها العميقة أن سمعتها العالمية سوف تتأثر كدولة ديموقراطية في مواجهة هذا التكتيك.
وأخشى ما أخشاه اليوم على الانتفاضة أن تصيخ السمع للعنفيين والعسكريين فيتم إجهاضها الى حين.
إن أهمية المقاومة المدنية أن شرائح المجتمع كلها يمكن ان تشارك فيها من الأطفال والنساء والشيوخ والصحفيين بل من كل الطوائف بمن فيهم من يقتل المتظاهرين.
لقد شاركت المرأة الإيرانية في الثورة اللاعنفية جنبا الى جنب مع الرجل وفي يوم الجمعة الحزين في 8 أغسطس من عام 1979 م قتلت طائرات الهليكوبتر العسكرية التي سلطها الشاه على مظاهرة مليونية 4560 شخصاً منهم 600 امرأة ولكنها كانت نهاية الشاه عندما لم تتورط الثورة باستخدام السلاح لحماية نفسها بل فتحت الصدور العارية للرصاص ولن تفعل اسرائيل هذا أمام محطات فضائية تنقل الصور بسرعة الضوء وتخسر سمعتها العالمية.
إن المقاومة العنفية بإطلاق الرصاص تعطي المبرر للرد وبعيار أثقل تحت قانون الدفاع عن النفس الغريزي الى مستوى دفع الناس الى نزوح جماعي كما حصل مع جولات الحروب النظامية التي خاضتها الجيوش العربية بخسارة المزيد من الأراضي مع كل جولة.
إنني أريد أن أفتح عين القاريء بهذا السؤال: هل يمكن لأي مواطن عربي أن يتحرك بأي مظاهرة في عاصمة عربية يضرب بالحجارة قوات الأمن كما رأينا في الشاشة في فلسطين زنرة نظيرها المرعب في شوارع المعظمية ودرعا في سوريا ؟
يجب أن نقر بهذه الحقيقة فالاحتلال الاسرائيلي يسمح بالتظاهر ويقاوم الحجارة بالرصاص المطاطي والمظاهرات السلمية بغض النظر ويسمح بحضور الإعلام ومازالت إذاعة فلسطين تبث الأخبار تبثيثا.
إن بعض المواطنين العرب يحسدون الفلسطينين أنهم يتظاهرون ويجرأون فيعبرون وبالحجر يرمون.
أما في العالم العربي فالحلق أخرس والتظاهر ممنوع والتعبير محرم مرتين والاعتراض يطحن بالدبابات وأما التصوير ونقل الأخبار على الهواء مباشرة فكان حجرا محجورا.
إنها حقيقة تفقأ العين ولكن لاأحد ينطق بها.
من جهة يبدو أن الفلسطينين في أزمة عارمة قد بلغت القلوب الحناجر وجاءهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم وزلزلوا زلزالا شديدا. ولكنهم في ولادة مباركة فهم يعبرون ويتظاهرون ويفرِّغون مشاعرهم.
إن أرض فلسطين قد تشهد ولادة دولة عربية خرافية مثل بقية دول المنطقة فعليهم أن لايفرحوا كثيرا بالدولة ولكن ماهي طبيعة هذه الدولة كما قال موسى لقومه: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون؟.
مع هذا فأنا أتفاءل أن تكون ساحة انطلاق وتحرر لكل (الإرادة العربية) أن الطغيان يمكن مقارعته بأسلوب مجدي بالمقاومة (اللاعنفية).
وكل ما يقلقني عندما أرى تحولها من المقاومة المدنية الى المقاومة المسلحة.
تقول الحكمة أن زرع بذرة الكراهية ينبت شجرة الحقد السامة ومن أكل من هذه الشجرة المحرمة مارس العنف وحرم من الأمن واكتسى بحلة الخوف.
ألا إن أمام العربي وظيفة ثقيلة للتخلص من الاحتلال الداخلي والخارجي ومن الطاغوت العربي والصهيوني في ضربة واحدة.
وقبل ذلك بالتخلص من (القابلية) للاستعمار وبتعبير القرآن مركب (الاستضعاف والاستكبار).
إنني متفاءل من هذه الروح التي تتدفق في سوريا وبلاد الشام كونها أسلوباً للمواجهة يمكن تطويره بدون عنف وكراهيات فحتى رمي الحجارة يمكن التخلي عنه باستبداله بأساليب فعالة لاتملك اسرائيل حيالها شيئاً مع قناعتي بصعوبته لعدم تمرس الجماهير العربية على هذا النوع الجديد من المقاومة.
ماذا ستفعل الأنظمة لو تحركت مظاهرات صامتة كل يوم؟ ماذا ستفعل لو قامت إضرابات وحركات اعتصام جماهيرية أو صيام جماعي أو مشت الألوف تلبس الأكفان أو قامت الاحتفالات الجماهيرية في الساحات العامة كما رأينا في يوغسلافيا تعزف الموسيقى أو تقيم مسارح نقدية ساخرة؟ لاشيء.
ماذا لو تحركت زحوف كاملة ومن الجنسين وهم يلبسون ملابس الاعتقالات النازية ويضعون على أذرعتهم العصابات الصفراء كما كان يفعل النازيون مع اليهود في ظروف الحرب العالمية الثانية.
أنه منظر حساس للغاية أمام شاشات الغرب وتأنيب رهيب للضمير الاسرائيلي. إن هناك حسبما ذكر (جين شارب) أكثر من 170 طريقة للمقاومة المدنية ويمكن استنباط طرق جديدة دوماً.
هل يمكن أن نعقل أن هذه الأساليب أجدى وأرحم وأكثر بركة.
إنني أعلم أن هذا الكلام قد يقابل بالاستنكار ولكن يجب أن نطرح هذه الأفكار في هذا الوقت العصيب كأسلوب خلاص للمواطن العربي الذي يقلب وجهه في السماء بحثاً عن الاتجاهات في يأس من الأوضاع بعد أن دخل العالم العربي نفق الاستبداد بدون أمل في الخروج منه.
إن التمرس على أساليب المقاومة المدنية يمكن أن تكون (حقول تجربة) رائعة لنقلها الى العالم العربي لولادة الحرية والديموقراطية أمام أسلوب العنف.
إن من يموت في أفغانستان والعراق في شهر واحد هو اكثر ممن يموت في الانتفاضة فهل نعقل أن مشكلتنا داخلية وأن الله لو خسف باسرائيل الأرض فلن يرتفع عنا مرض الاستبداد وأن ما ينتظر أطفال الحجارة خطر وقوعهم في قبضة نظام عربي لايرقب فيهم إلا ولاذمة فيستبدلوا مغصاً بصداع كما يقول الكواكبي أو طاغوت صهيوني بعربي كما في تعبير غاندي.
نعم يجب أن نعلن عن هذا الاتجاه والدعوة الى توليده مثل تركيب اللقاحات أيام انتشار أوبئة. يجب ولادة روح جديدة للمقاومة غير التي اعتدنا عليها في تحمل الأذى والصبر عليه كما فعل الأنبياء بنتيجة أخلاقية رائعة وبتكاليف قليلة. إنها خطة اقتصادية ناجحة لو انتبهت لها المقاومة. إنني أناشد المقاومة أن تتأمل كلماتي وتجرب هذه الطريقة التي منحتنا إياها ظروف تاريخية مباركة لولادة أمة جديدة من رحم التاريخ تتخلص من الطغيان أياً كان شكله صهيوني أم عربي.
إنها لاتحتاج الى سلاح يهرب من الدول العربية المجاورة ولكنها تطلب تدريباً شاقاً لعله أصعب من تدريب الجنود في الثكنات. بدءً من (غاندي) وانتهاء بالفلسطيني المقدسي (مبارك عوض) أثبت هذا الأسلوب أنه ليس استسلاماً كما يتوهم البعض ولكنه تكتيك فعال جدير بالتجربة. وعندما وقف غاندي يخطب في الجموع في جنوب أفريقيا قال:(إنهم قد يكسروا عظامي وقد يقتلوني ولكنهم لن يناولوا الطاعة). في الواقع كان يردد أول سورة نزلت من القرآن كلا لاتطعه واسجد واقترب.
إنها فرصة هذه الأيام أن يشاهد القاريء فيلم غاندي في المقاومة السلمية حتى يكتشف كيف هزم رجل عاري امبراطورية لاتغيب عنها الشمس.