في مطلع مايو 2011 م تزامنت ثلاث وقائع؛ الأولى في مصرع ابن لادن في إسلام أباد فشرب من نفس الكأس التي سقاها الآخرين دهاقا.
وكانت الثورة العربية الكبرى حريقا يأكل مفاصل ثلاث أنظمة في ضربة واحدة مالها من فواق، في ليبيا حيث المهرج بثوبه الفلكلوري وعباراته المضحكة بأفعال مرسومة بالدم القاني، وفي اليمن حيث الثعلب المراوغ يكافح لحظات فنائه الأخير، وفي سوريا حيث كشر الأسد عن أنيابه الكبيرة.
أما الحدث الثالث فكان اعتقال رئيس تحرير أكثر الجرائد انتشارا في المغرب هي المساء، فخدمه خصومه ونفعوه من حيث أرادوا ضره، ورفعوا من قدره أكثر مما يفعل لنفسه أي حريص، بحماقة معروفة في الخصومات السياسية، وهكذا تحول رشيد النيني إلى بطل قومي تأخذ كلماته صدقها من كفاحه السلمي في التعبير.
وفي هذا وعن محنة المثقف ينقل (حسين مروة) في كتابه (تراثنا كيف نعرفه) محنة المثقف ( عبد الحميد الكاتب) أنه حين فر مع (مروان بن محمد) آخر خلفاء بني أمية أن مروان قال له: (انج بنفسك يا عبد الحميد، فإنهم إن قتلوني خسرني أهلي وحدهم، وإن قتلوك خسرك العرب جميعاً).
كان على مروان أن يقول سوف تخسرك الإنسانية، لأن خسارة المثقف كما جاء في الحديث مناحة تبكي فيها حيتان الماء وطيور السماء. وليس غريبا أن تذكر الآية أن الظالمين لاتبكي عليهم السماء ولا الأرض وماكانوا منظرين.
أما مصير الخليفة الأموي (مروان) فكانت بالسيف في قرية بوصير في مصر، وأما المثقف (عبد الحميد) فاختفى لفترة عند (ابن المقفع) ولكن عيون الجواسيس العباسية كانت خلفه ففاجأت الرجلين في بيت ابن المقفع وهتف الجند أيكم عبد الحميد فليتقدم؟ فوجيء الجند أن الاثنين قفزا معاً كل يقول عن نفسه أنه عبد الحميد! أما ابن المقفع فكان يريد أن يفدي ضيفه بنفسه، وأما الكاتب عبد الحميد فخشي أن يفرط في صاحبه ويسارع اليه الزبانية. تقدم عبد الحميد لرجال السلطة فقال: ( ترفقوا بنا فإنا كلاً منا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم ويمضي البعض الآخر ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم ففعلوا وأخذ عبد الحميد).
وفي كتاب (وفيات الأعيان) لـ (ابن خلكان) يذكر نهاية المثقف عبد الحميد أن أبا العباس السفاح الخليفة العباسي دفعه الى صاحب شرطته (فكان يحمي له طستاً بالنار ويضعه على رأسه حتى مات) ويصفه ابن خلكان أنه:(يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب أماماً) .
أما مصير (ابن المقفع) فتأخر بعض الشيء ولكنه قتل بأشنع من الكاتب عبد الحميد. يقول (ابن خلكان) أنه لما ألقي عليه القبض والي البصرة قال له (أنشدك الله أيها الأمير في نفسي. فقال أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، وأمر بتنور فسجر، ثم أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه عضواً عضواَ، وهو يلقيها في التنور، وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده، ثم اطبق عليه التنور، وقال ليس علي في المثلة بك حرج لإنك زنديق وقد أفسدت الناس).
يقول بعض الصيادين ان الأفعى عندما تقترب من فريستها تصاب بالرعب فلا تتحرك فتبتلعها لقمة سائغة. وأعرف من غابات ألمانيا أن الغزال يصاب بصدمة الضوء ليلاً فلايبرح وحتى لايعمل السائق الحادث عليه أن يطفيء النور فيفر الغزال. وأمام شحنة رعب من هذا النوع الذي تنقله قصص التاريخ، أو مانراه أحياناً في المنطقة العربية يصلح تفسيراً لحالة الخرس المطبق للمجتمع، فالانسان يتلقى الجرعة القصوى من الرعب أسلمته الى حالة الرهاب المرضية، وقتلت المعارضة اجتثاثا.
راهن (عبد الله بن المقفع) على التغيير العقلي فحاول القيام بمسؤولية المثقف في التوعية، وحاول في (رسالة الصحابة) أن يتناول أهم أربع نقاط في الاصلاح الاجتماعي.
كانت الأولى في إصلاح المؤسسة العسكرية، وناقش في الثانية مسألة (القضاء) أن يرجع فيها الى المصلحة العامة والعدل وعدم مراعاة القياس الشكلي فمتى (رؤيت العدالة في غير القياس يجب أن نضحي بالقياس) ويأتي ابن المقفع بمثال على ذلك انك لو سألت أحدهم أتأمرني أن أصدق فلا أكذب كذبة واحدة أبداً لكان جوابهم نعم، ولكن ماذا تقولون لو أن رجلاً هارباً من قبضة ظالم وسألني عن مكانه وأنا أعرف مخبأه هل أدل عليه والتزم الصدق؟ ليصل في النهاية باقتراح ما يشبه فكرة الهيئة التشريعية لتقنين القوانين وتعميمها في الدولة ويقرر (أحمد أمين) في كتابه (ضحى الإسلام) أنه (رأي له قيمته ووجاهته وهو يتفق في كثير من نواحيه والآراء الحديثة في التشريع، ولو عمل به المسلمون لكان له أثر كبير في الحالة الاجتماعية) ولم تذهب دعوة ابن المقفع سدى فلعل كتاب (الخراج) الذي وضعه الإمام الحنفي (أبو يوسف) لاحقاً لتنظيم أوضاع الأراضي كان من وحي فكرة ابن المقفع، بفارق أن ابن المقفع كان ينطلق من تحليل عقلاني بحت.
وأما الفكرة الثالثة التي عالجها فكانت شريحة (البطانة) وأهمية انتقاء هذه النخبة وهي ماعناها بعنوان الكتاب، فكلمة (الصحابة) قصد بها الحاشية التي تحيط بالحاكم وتدفعه الى اتخاذ القرارات الخطيرة، فيقرر بكل أسف أن (الخليفة يقرب أوغاد الناس وسفلتهم فهرب الخيار من التقرب للولاة) ويروي أن من أتى الى دار الخلافة أيام السفاح أبوا أن يزوروا الخليفة لما يعلمون من بطانته وسوء سيرتهم. وذكر أنه (مارأينا من أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة، ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور) ليصل إلى نصح الخليفة أن لا يقرب إليه إلا (رجلاً أتى بمكرمة عظيمة أو رجلا له من الشرف وجودة الرأي والعمل ما يؤهله، أو رجلا فقيها مصلحا ينتفع الناس بفقهه) ويقرر في عمل هذه النخبة، أنه (يجب أن يعين لكل منهم اختصاص في عمل لايتعداه) ما يسمى بالتكنوقراط في أيامنا.
ويذكرنا هذا الكلام مع ماوصف (عبد الرحمن الكواكبي) في كتابه (طبائع الاستبداد) طبقة الحاشية هذه أن تكون:
(النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً أعلاهم وظيفة وقرباً).
ويصل ابن المقفع في البند الرابع من رسالته إلى فكرة الإصلاح الزراعي (الخراج) أن تمسح بشكل جيد مع التدوين الدقيق والضريبة المناسبة، ولكنه اعترف أنها مسألة ليست بالسهلة أمام خيانة مستفحلة.
يبدو أن رسالة الصحابة لابن المقفع لم ترو غليله فاستعان بأدوات الأدب لينتج معجزة أدبية رائعة كانت فكرة في أفلام الكرتون التي نراها عند الأطفال اليوم، فإذا لم ينطق الناس فلتنطق الحيوانات، وإذا أصاب البشر الخرس فلا بأس من إرسال الأفكار على لسان القرد والغيلم والببر والجرذ والسنور، وهكذا بدأ كتابة كليلة ودمنة، وذكر في مقدمتها أهدافاً أربعة:
أن يسارع الى قراءته أهل الهزل من الشبان، وإظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنسا لقلوب الملوك، والثالث أن يكثر استنساخه فلا يبطل أو يخلق على مرور الأيام، أما الغرض الرابع فقد أخفاه واحتفظ به لنفسه تحت عبارة غامضة (والغرض الرابع وهو الأقصى وذلك مخصوص بالفيلسوف).
ويعقب احمد أمين على هذا الغرض الخطير (والظاهر أن هذا الغرض يمكن تلخيصه في أنه النصح للخلفاء حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب، وتفتيح أعين الرعية حتى يعرفوا الظلم من العدل، فيطالبوا بتحقيق العدل. ولم يوضحه لأن في إيضاحه خطراً عليه من المنصور ولعل هذه النزعة كانت من الأسباب في الايعاز بقتله).
يبدو أن كتاب (كليلة ودمنة) قتل صاحبه ولم يشفع لصاحبه نبل أخلاقه ولاسعة علمه ولا أنه من المع الشخصيات في الأدب العربي.
شعر الخليفة المنصور أن شخصيات من هذا النوع غير مرحب بها، فهو يريد عبيدا وليس مفكرين أحرارا .
إنه يريد أدوات للاستخدام وليس إرادات لقيادة جماعية.
يصف من عاصر ابن المقفع مثل (محمد بن سلام) (سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن احمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع).
ويصفه الجاحظ:(كان جوادا فارسا جميلا) ويعجب الناس بأدبه فيسألونه من أدبك؟ فيقول( نفسي إذا رأيت من غيري حسنا أتيته وإن رأيت قبيحا أبيته).
كتاب كليلة ودمنة كان رسالة من ابن المقفع للمنصور فتسلمها بأمانة ورد عليها، فأوعز إلى أحد أدواته المدعو (سفيان بن معاوية) وهو يعلم حقده عليه فيلقي عليه القبض قائلاً: (يا ابن الزنديقة لأدخلنك نار الدنيا قبل الآخرة) وهو يعلم أن تهمة الزندقة ليس فيها استتابة، وهي تهمة لا يخرج منها صاحبها إلا مع خروج الروح.
إن الأمة خسرت الكثير من هذه الكنوز في جو الاستبداد فالمقفع قتل وعمره 36 سنة شأن العباقرة، ولكنه ترك بصمات عمله على كل الأدب العالمي. ونكاد ننسى اليوم أنه قتل من اجل أفكاره ومن قتله.
أما ابن المقفع فيلتمع كأشد كوكب دري في السماء إضاءةً.
يذكر (مكيافيلي) صاحب كتاب (الأمير) عن الفرق بين الدولة العثمانية والفرنسية، أن الأولى صعب قهرها سهل الاحتفاظ فيها بعد كسرها، أما الدولة الفرنسية فسهل كسرها في البداية صعب الاحتفاظ فيها بعد ذلك. ويكشف السر عن ذلك عن طبيعة الحاكم والأمة والعلاقة بينهما، أن الأمة التركية غنم على رأسه راعي منفرد فإذا قتلت الراعي وضعت يدك على غنم لا تملك حولا ولا طولا، أما الأمة الفرنسية فهي مجموعة رعيان متشاكسون على رأسهم أحد الرعاة، فإذا تغلبت على راعي وقعت في مصيدة الرعيان بأيديهم عصي كثيرة فتعاوروا عليك ضربا باليمين!!