هل يختلف بشار الأسد يا ترى عن غيره من الطغاة؟
الجواب ليس في طينته ولكن في وسط قميء من مستنقع راكد يفرخ البعوض في كل وقت؟
وفي يوم هلكت روما من خلف مستنقعات البعوض كأحد تفسيرات نهاية الإمبراطورية مع كل جبروتها.
لماذا لا يسمع الطغاة ولا يتعظون؟
والجواب ليس في جبلتهم بل هو قانون نفسي مثل قوانين الفيزياء من الضغط والحرارة والتمدد وعمل الجزيئات دون الذرية، لذا فهم يكررون نفس القانون ولا يهربون من حتميته المصيرية.
المشكلة أن أي فرد يعطى من الصلاحيات ما ينفخه إلى حجم جبل نتروني يصبح بوزن الجبال الراسيات فلا يتزحزح إلا بقوانين نوعية من نفس الأثر..
هل يختلف بشار الأسد ووالده من قبل، وبن علي الفار، والمبارك بدون بركة، وصالح بدون صلاح، والقذافي المقذوف، وصدام المصدوم المشنوق هل يختلفون عن بعض أم هم من ملة واحدة؟..
والجواب أنهم يخضعون لنفس القانون وهو يعني أن أي أحد منا إذا وضع في موضعهم ومنح صلاحيتهم سيتحول إلى مسخ من أمثالهم.
وهذا يدخلنا إلى فهم سيكولوجي عميق عن الطغيان والطاغية والطغاة عبر التاريخ.
لا يوثق بالانسان لأن في جبلته الاستعداد للطغيان مع كل امتلاك ما لم توجد ضوابط ومراقبة.
ولا يعول عليه لأنه خلق هلوعا جزوعا منوعا.
وبقدر التعطش للسلطة بقدر الفراغ والنقص الداخلي عنده.
والسلطة بدون مراقبة ومحاسبة تفسد.
وقليل من السلطة تعني قليلاً من الفساد، وسلطة مطلقة تعني فساداً مطلقاً وإن الإنسان لظلوم كفار.
ولا يشذ أي طاغية عن هذا القانون اسمه بشار أم مبشور؟ أو صدام ومصدوم وقذاف ومقذوف؟ فالقانون يكرر وجوده الحتمي.
وهذه الحقيقة اهتدى لها (اتيين دي لابواسييه 1530 ـ 1562 م) قبل 440 سنة في علم الاجتماع والفلسفة السياسية. فاعتبر أنه (لبؤس ما بعده بؤس أن يخضع المرء لسيد واحد يستحيل الوثوق بطيبته مادام السوء في مقدوره متى أراد. فإن تعدد الأسياد تعدد البؤس بقدر مانملك منهم)
والقرآن يضرب المثل في هذا بين رجلين أحدهما فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلما لرجل هل يستويان مثلا)
وهذه الحقيقة موجودة في (الفيزياء) كما هي في علم (الاجتماع) فاذا ضغط الغاز تحولت الكمية الهائلة منه الى قطرات من سائل، واذا سمح لجزيئات بسيطة من عطر أن تخرج من عنق زجاجة فعلت كما فعل جني المصباح فانتشرت في جنبات الغرفة جميعاً مهما كانت الصالة رحبة. وكذلك في امتلاك مفاتيح القوة الاجتماعية، فأي شخص منا يجلس في داخله الفرعون (رمسيس الثاني) الذي حكم تسعين سنة وقتل من الناس مالايحصيه عدد، وتزوج عشرات النساء وأنجب أكثر من مائة طفل، وزوّر اسماء الفراعنة الذين سبقوه فمسح أسماءهم وكتب اسمه على النصب والتماثيل.
ومايضبطنا هو نفس قانون انتشار الغازات، فكلما انفسح المجال أمامها انتشرت، وكذلك في وضع اليد على السلطان.
ويمكن لأي فرّاش أو خادم في أي دائرة أن يتحول الى فرعون بشرط واحد امتلاكه مفاتيح القوة بدون كوابح.
ويمكن لأي مدير في أي دائرة أن ينقلب الى طاغية يذيق الموظفين أشد البلاء والعنت بشرط واحد هي امتلاكه مفاتيح القوة بدون مراقبة ومحاسبة.
ويمكن لأي شرطي أن يصبح ديكتاتور، كل ما يحتاجه هو وضع يده على السلاح والجيش كما كان الحال مع الشرطي الشرس الفار بن شقي في تونس.
ولايمنح الانسان الاعتدال والمجتمع العدل الا (المعارضة) ولذا كانت المعارضة شرطاً للاتزان.
وهذا المرض أي تحول البشر الى صنفين آلهة وعبيد أو بتعبير القرآن مستكبرين ومستضعفين هو اختلال في رافعة القوة في المجتمع، ويمكن أن يتسرب هذا المرض بجراثيمه الفكرية الى كل طبقات المجتمع ومستوياته حتى في علاقة الرجل بعائلته فيعامل امرأته كعبدة وأولاده كرقيق، ولايمكن لأحد أن يعترض عليه فكلماته لامعقب لها واذا أراد بهم سوأً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال.
من هنا كانت المعارضة أساسية لارساء العدل الاجتماعي، وهي تهب الصحة النفسية لكل الأطراف، وهي ضرورية للأمة وتصب في مصلحة الحاكم وتحافظ على كل الأطراف.
ولم يكن غريباً أن أفرد القرآن سورة كاملة باسم (المؤمن).
إنها رواية عن رجل رفض السكوت على الجريمة وكان في الظل يكتم إيمانه في أجواء مشبعة بالرعب ورجال الأمن والجواسيس، فشعر أن الأمان ليس في الصمت بل بالجهر والاعلان في اللحظة المناسبة فقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟
في هذه الرواية يبرز معنى الحكمة فليست أن يتسربل صاحبها بقميص (السرية) ليقوم بانقلاب ناجح يطيح بالحاكم في ساعة الصفر. بل النطق بالكلمة المسؤولة والصحيحة في الوقت المناسب ولو كانت مكلفة، وهي ستخرج في النهاية بضريبة أخف بكثير من الخرس الاجتماعي، والقرآن يسجل أن الله وقاه من سيآت مامكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب. وخُسف بالمجتمع الفرعوني في ظلمات التاريخ فلم يعد من إنسان ينطق الهيروغليفية؟
إن العدل مفهوم وجودي لإنه التوازن بين أطراف القوة وهذا ينطبق على قوانين الميكانيك وتيارات النفس وحركة المجتمع.
فالسيارة التي لاتملك فرامل تمشي باتجاه الحوادث، والنفس التي لاتنمي ملكة النقد الذاتي تصاب بالكبر، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. والمجتمع الذي لايوجد فيه معارضة ميت. وهو أقرب الى عالم القبور حيث الأمن والسكون بدون أي حركة، وهل رأينا الأموات يقومون من قبورهم فيمارسوا نشاطاً سياسياً؟
إنهم أموات غير أحياء ومايشعرون أيان يبعثون؟
تستقيم حركة السيارة بين (دعسة البنزين) و (الفرامل) وتعمل العضوية على ترشيد أي حركة من أي أصبع بتمرير أوامر الحركة بمنظمات خاصة في قاعدة الدماغ، وتَعَطُلها أو عجزها يقود الى مرض باركنسون فيمشي الانسان مكباً على وجهه مترنحاً مهتز الأوصال.
وتعيش الروح بصحة نفسية مع ممارسة النقد الذاتي، وتنضج النفس بدخول مرحلة (النفس اللوّامة) بتشغيل آليات المراجعة بحيث تتحول الى جهاز يعمل تلقائياً من عالم الوعي واللاوعي أكثر من صحوات غير منتظمة للضمير.
وانتبه الغرب الى مؤسسات المعارضة فاعتبرها قطعة أساسية من جهاز الحكم، بحيث أن الحزب الذي يصل الى الحكم يفرمل بحزب المعارضة، فيراقبه ويعارضه إذا أخطأ، ويعصيه في المعصية ويطيعه في الطاعة، ويكشف أخطاءه فلا تاخذه في الله لومة لائم.
أما عندنا في العالم العربي فقد أنقلبت النسب وانعكست الصورة، كمن يبني طرقات سريعة باتجاه واحد، أو سيارات بدون فرامل، وعقلاً بدون نقد، ونقلاً بدون عقل.
لاغرابة ان رسى مصيرنا في أسفل سافلين في استعصاء خبيث للثقافة ومواصلة في خط الانحدار في رحلة موجعة نحو القاع.
إن المفكر (أحمد امين) انتبه مبكرا الى هذه الظاهرة القاتلة في مسير الحضارة الاسلامية. عندما انفرد بالساحة الفكر الوثوقي الدغمائي النصوصي مما يذكر بظاهرة الكتبة والفريسيين التي واجهت المسيح عليه السلام في المجتمع اليهودي، وتمنى بقاء الخطين معاً يعدل كل الآخر، وأن لاينفرد بالساحة حزب المحافظين على الحزب التحرري العقلاني، والمسلمون يظنون أنهم استثناء للقانون والله يقول فلم يعذبكم بذنوبكم؟ ولذا فإنهم لايستفيدون من كنوز القرآن لأنهم يشعرون أن الحديث عن الآباء هو آباء قريش وليس آباءهم.
عندها استقر الأمر للعقل الكسيح وطحن التيار العقلاني من المعتزلة وسواهم بحيث أن التشكيك بعقيدة أي انسان حتى اليوم يكفيها أن تنتسب لهذا الخط الفكري.
وهكذا فالمعتزلة والاتجاه العقلاني في خانات التفكير تمت هرطقتهم وتحطيمهم وافناء كل تراثهم العقلي من نوعية العقل الجبار (النظّام) وبقي في الساحة عقلاً بدون مراجعة، ونقلاً بدون عقل، وسيارات تمشي بدون فرامل، وهذا هو الأساس للاستبداد السياسي. لإنها نسخة من الاستبداد الفكري، ولإنها الوجه الثاني لعملة عدم التفكير، وتوقف المراجعة وممارسة النقد الذاتي وكسر قيود التقليد والانعتاق من افكار الآباء، ومحاولة التحرر الى فضاء التفكير الرحب والابداع بدون خوف ومساءلة. إن الغرب بنى سيارات تمشي بتوازن بين طاقة البنزين وعزم الكوابح وقبل ذلك أنتج عقلاً يطرح الأسئلة بدون خوف مغرم المعرفة وارتياد المجهول وكسر المسلمات، وأقام مؤسسات سياسية لاعوج فيها ولا أمتى، في توازن بين محافظين وعمال، بعد أن حطم سلطان الجبت والطاغوت الممثلة في الكنيسة والأقطاع، وبذلك ولد مجتمع أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف محرر الى حد كبير من علاقات الاستضعاف والاستكبار.
أما نحن في العالم العربي فقد كتب علينا أن نعيش في قرية يلبس أهلها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
الانسان العربي خائف من المستقبل. يرجف من المخابرات، لا يأمن السلطة. وإذا أوقفه الشرطي يسأله عن رخصة السير خفق قلبه وعلت وجهه صفرة.
دكل هذا بسبب خلل رافعة القوة في المجتمع وتحوله الى مستكبرين ومستضعفين.
وكل هذا الاستبداد السياسي خلفه الاستبداد العقلي والديني، ولاحرية سياسية بدون حرية عقلية وبدون حدود. أما نحن فنريد عقلاً محددا بالمسطرة من عيار النانوغرام، يمشي باجزاء من الملمتر في مقاسات مجهرية، محدد الأبعاد الفراغية فهناك سقف للتفكير، وأمام القفز حواجز لانهاية لها تمنع أي حصان رشيق. فهذه هي أم المصائب ويبقى السؤال هل الى خروج من سبيل؟ كيف نكسر أغلال العقل ونحرره من أصفاد؟ تروي القصة أن رجلاً طلب من النجار أن يصنع له باباً ثم جاءه في يوم فلم يجد النجار فحمل الباب وانطلق به، ولما عاد النجار فلم يجد الباب ركض خلف الرجل فوجده يمشي به خارج البلدة. فما كان منه إلا أن بدأ يقرع الباب قائلاً افتح الباب أقول لك افتح والسارق يحكم إغلاق الباب وكل الفلاة مفتوحة بينهما.
ما يحدث في سوريا والعالم العربي هو مأساة العقل قبل كل شيء، ولذا فالتحرر من الطغيان رصيده في النفوس، ويبدو أنه قد جاء الربيع وتفتحت الزهور ونضج المناخ..
نقول هكذا وقد يكون محض أوهام وبداية فوضى عارمة ومذابح أهلية..