(تفكيك سيكولوجي في كيفية تحرير الارادة من علاقات القوة)
يذكر (دانييل جولمان) في كتابه (الذكاء العاطفي) أنه كان متوجهاً الى شارع ماديسون في مدينة نييورك وكان يوماً شديد الحر والرطوبة من أغسطس ووجوه الناس عابسة متجهمة وعندما صعد الى الحافلة استقبله رجل أسمر اللون في منتصف العمر وعلى وجهه ابتسامة دافئة وحياه بود: مرحباً كيف حالك؟ ثم لاحظ أنه يفعل نفس الشيء مع كل من صعد الباص وكانت ملامح الدهشة تبدو على وجه كل راكب ولأن الجميع استغرقهم المزاج الكئيب فلم تحظ تحية السائق بالرد الا من عدد محدود منهم. يقول جولمان ومع تقدم سير الحافلة وسط الزحام الخانق الى وسط المدينة حصل تحول بطيء وسحري فلم يك السائق ينفك عن التعريف بكل محطة مع التعليق اللطيف على الأبنية والناس وإطلاق النكات. لقد تغيرت نفسية الناس فعلاً مع الحديث فلم ينزل أحد إلاّ حيَّاه بود وحب. إن هذه القصة تحكي الأثر المتبادل للعواطف. ويدخل الحب والعنف تحت هذا القانون فالعواطف تولد مثيلاتها والعنف يفجر مزيداً من العنف.
وأمام أخبار المذابح المروعة من كل مكان يجب وضع (ظاهرة العنف) تحت التشريح السيكولوجي. ومثلا فإن مذبحة أم درمان عام 2000م تمت في المسجد وفي شهر رمضان وفي صلاة التراويح زيادة في التقوى وعلى يد فرقة إسلامية. وهي أضعاف مضاعفة ممن يقتل من الفلسطينين يومياً بيد قوات الاحتلال.
(أولاً) العنف لايحل المشكلات بل يزيدها تعقيداً لإن كل دورة تنتهي بتحطم أحد الطرفين الذي يستعد للجولة القادمة بطاقة أعلى عما دخلها مما يحرض الغالب الى التسلح بأفضل ومهما كانت النتيجة فإن هذه الدورة المجنونة لاتكف عن الاتساع والتدمير وتبادل الأدوار. وهذا يفتح الوعي على فهم الحديث الذي يحكي قصة الرجلين الذين احتكما الى السيف. كان الصحابة يرثون للقتيل ويرونه مظلوما فلا يستوي في الميزان مع القاتل: (هذا القاتل فما بال المقتول؟) فردتهم الحكمة النبوية الى فهم (الآلية النفسية) لولادة الحدث بأنهما كانا ينطلقان من نفس القاعدة (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) وقضية القاتل والمقتول هنا هي من سبق ويمكن لأي طرف أن يأخذ مكان الآخر.
ولم يكن نهي المسيح عليه السلام للحواري بطرس أن يغمد سيفه من فراغ:( من اخذ السيف بالسيف يهلك).
ويروى عن صلاح الدين الأيوبي أنه في لحظات احتضاره أوصى أولاده قائلاً إياكم والدماء فإن الدماء لاتنام.
وفي الدراسة الشيقة التي أجراها المؤرخ البريطاني (توينبي) عن التاريخ ودورات العنف والعنف المضاد أن ظاهرة الحرب بين الدول كانت تأخذ تسلسلاً متتابعاً من الفعل ورد الفعل بحيث أن كل جولة كانت أشد هولاً في إيقاعها من سابقتها. وهذا اللولب الصاعد من تراكب القوة ومضادها أوصل العالم الى حافة الانتحار الكامل لكل الأطراف.
وجرت القاعدة أن من يخوض الحرب لايقدم عليها وهو يريد بالانتحار. وتحت هذا الضغط النووي ماتت (مؤسسة الحرب) وتم الاحتفال بدفنها في جنازة خاشعة في باريس مع نهاية الحرب الباردة.
ولكن العرب لم ينتبهوا الى هذا التحول التاريخي ومازالوا يشترون السلاح الميت الذي لايضر ولاينفع ويتلمظون لبناء الصنم النووي بعد أن باشر منتجوه بتفكيكه. إن وضع العرب مع التسلح يشكل نكتة كبيرة ولكنها لاتضحك أحداً.
(ثانياً) العنف مشحون بالمشاعر السلبية التي تثقل النفس وهي ضارة بالعضوية. ليسأل الانسان جسده في حالات التوتر هل هو بخير؟ العنف يقوم على التوتر الذي يعصر المعدة ويضخ الادرينالين الى الدم فيرفع الضغط ويحبس المثانة الخ. أما مشاعر السلام فهي تغمر الروح بفيض من السعادة الداخلية كما وصفها الشاعر الألماني (جوته) في أبيات (آلاف من الأقواس تتواثب وتتلاقى من النجم الوضيء الى الطين الوضيع تتزاحم وتتدافع لتجد سلامها الأبدي وأمنها الأزلي في الله ). جاء في كتاب (الأخلاق الى نيقوماخوس) لأرسطو:
(أن يغضب الانسان فهذا أمر سهل ولكن أن تغضب من الشخص المناسب وفي الوقت المناسب وللهدف المناسب وبالأسلوب المناسب فليس هذا بالأمر السهل). يحكى أن يابانياً من محاربي الساموراي أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار لكن الراهب لم يوله الاهتمام واستخف به. شعر المحارب أنه أهين فما كان منه الا أن استل سيفه وصاح: لأقتلنك. أجاب الراهب بهدوء: هذا هو الجحيم. هدأ الساموراي وقد روعته الحقيقة حول موجة الغضب التي سيطرت عليه فأعاد السيف الى غمده وانحنى للراهب شاكراً له نفاذ بصيرته فقال الراهب: وهذه هي الجنة.
(ثالثاً) العنف يقوم على (تحطيم) إرادة الآخر والغاءه وتصفيته جسدياً بالقتل وهذا يصلح تفسيراً لتعضل ولادة الديموقراطية في العالم العربي. فالشرط الأول لولادة الديموقراطية هو (تحييد العنف).
ولنتأمل ماحدث يوما في أمريكا كيف حسم خلاف (بوش ـ آل جور) في القضاء وما يحدث عندنا من تزوير الانتخابات وتبديل الدستور وتعطيل القضاء.
لقد جمح الخيال ببعض العرب فتطوع بنصح الأمريكيين بتقاسم السلطة خوفاً من اندلاع حرب أهلية. إنه كلام يصلح للنكتة.
وإذا كانت الديموقراطيات الغربية أباحت قتل الحاكم الظالم وإزالة الطواغيت بالعنف. فإن أسلوب الأنبياء لايعتمد تغيير (اللاشرعية) باللاشرعية بل (بالشرعية) فهذا هو الفرق بين آلية عمل الديموقراطيات الغربية وأسلوب الأنبياء.
وهذه الآلية مازالت غائبة عن الفكر السياسي في العالم العربي ودخلت الأمة في ضباب حالك من الاهتداء الى آلية واضحة لتصحيح المسار.
وتحول الناس الى فرق ثلاث: إما مباركة الأوضاع فهذا أفضل شيء ممكن . وإما إزالة الاستبداد بالسيف. وإما الانسحاب الى تكايا الدراويش والانتحار بمسبحة التصوف.
يعتمد (العنف) تحطم أحد الارادتين أثناء الصراع أما اللاعنف فيعتمد (التقاء) الأطراف واندماجها.
والحقيقة هي في مكان ما في منتصف الطريق وليس هناك من يملك الحقيقة الحقيقية النهائية.
ونحن نسبح في اللحظة الواحدة بين الخطأ والصواب ونقترب ونبتعد عن الحقيقة بقدر الصدق والجهد والوسائل المتاحة.
وهذا يحرر جواً رائعاً من الحوار ليمتزج الطرفان في الوصول الى اكتشاف الحقيقة طالما لم تعد ملكاً لأحد بل تولد بالتدريج من خلال تزاوج الأفكار.
يقول (ليسنج) من فلاسفة التنوير: (لو أن الله وضع الحقيقة المطلقة في يمناه وجعل الشوق الخالد الى البحث في يسراه ومعها الخطأ لزام لي ثم قال لي اختر بين اليدين إذاً لجثوت ضارعاً أقول يارب أعطني الرغبة الى البحث لأن الحقيقة المطلقة هي لك وحدك).
(رابعاً) العنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف والجريمة.
واللاعنف شجرة مباركة جذورها الحب وثمرتها الأمن والسلام.
وأهم مافيها تحرير ارادة الانسان من (علاقات القوة) ومنحه السلام الداخلي العميق والطمأنينة الروحية كما وصفها ابراهيم عليه السلام عندما تذوقها:(فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون).
هناك علاقة جدلية بين الكراهية والإكراه والخوف والجريمة وكما يقول عالم النفس السلوكي (سكينر): (أن العواطف تتبادل التأثير فالإحباط يولد العدوانية).
وآلية عمل (المشاعر السلبية) أنها تنقلب على صاحبها ولايتحرر من أسرها الا بالانتقال الى مشاعر السلام التي تملأ نفس صاحبها بالغبطة.
(خامساً) (اللاعنف) ينشط في الجو العلني النظيف المعقم أما (العنف) فلأنه ينوي الغدر والأذية فيتسلح.
والتسلح يجب أن يغطس الى الأعماق المظلمة. والظلام يترافق بالعمى فلايمكن لخطط التسلح أن تناقش علناً بل هي أسرار حربية. ومن هنا تعانقت (التنظيمات السرية) والعنف والخوف.
ومن هذه الأجواء الملوثة ولدت مصيبة الانقلابات العسكرية في العالم العربي ومعها نموذج الانسان الخائف. والكل يفكر على نفس الطريقة العنفية في تغيير الأوضاع. مما أحدث استعصاء في الأوضاع السياسية وضعها في ثلاجة تاريخية تجمدت فيها مفاصل الحراك الاجتماعي.
(سادساً) أخطر مايواجه اعتياد حمل السلاح وجعله لغة تفاهم سهلة وسريعة أن أصحابها يقعون في عشقه وعبادته كصنم جديد من حيث لايشعرون.
إن الحوار مزعج وطويل ويحمل مفاجآت لأصحابه في احتمال اكتشاف أخطائهم أما الطلقة فتحل المشاكل بدون كل هذا الصداع. إن المجاهدين في افغانستان حملوا السلاح وطردوا الروس منذ زمن بعيد ولكن غرام القوة والسلطة هدم البلد أضعافاً مضاعفة عما فعله الاجتياح السوفيتي. وإن أخطر مايواجه الانتفاضة الفلسطينية هو طبيعة السلطة والدولة التي سوف تتشكل بعد انحسار اسرائيل. كما أن المقاومة المسلحة في لبنان مهددة بنفس المصير من الغرام بالسلاح الذي نجحت فيه كاسلوب تخاطب مع اليهود. وتشكل خطرا (كمونياً) يمكن أن ينقلب الى تهديد داخلي عند تأزم المشاكل.
إن بعض العرب فرحوا بأولادهم الذين التحقوا بالمجاهدين الأفغان في قتالهم ضد الروس كما حدث الآن في الشيشان ولكن قصة الأفغان العرب دلت أن من تدرب على التفجير هناك بإمكانه أن يفجر العواصم العربية يوماً ما.
وفي بداية الأزمة الشيشانية بدأت النساء هناك بممارسة المقاومة المدنية واليوم بعد كل الدمار الذي حصل يطرح السؤال نفسه لو مارس أهل الشيشان المقاومة المدنية ألم يكونوا قد ربحوا المعركة أضعافاً مضاعفة ودخلوا ضمير الجندي الروسي أنه يقاتل في حرب عبثية؟
ألم يكونوا حفظوا بلدهم وولدت الأمة ولادة جديدة محررة من كل أنواع الطغيان الخارجي والداخلي.
(سابعاً) قامت مدرسة (علم النفس التحليلي) بتشريح النفس لفهم آليات (اللاوعي) وكيف يتدفق (السلوك) وإننا نعرف اليوم في علم الصحة النفسية أن من يقتل بآلية الدفاع عن النفس يفعلها بسهولة ولكن من يقتل أعزلا مسالما يقع تحت وطأة الذنب أنه قاتل وليس بطلا.
وعندما قتل الناس ظلماً في (صبرا وشاتيلا) تحركت مظاهرة من اليهود في اسرائيل تضم 350 ألف انسان ولم يتحرك أحد خلال 17 سنة من كل الحرب الأهلية. فهذه آليات نفسية لانفقهها ولانسخرها.
وهو الهدف الذي روته القصة القرآنية عن صراع ابني آدم. فالقاتل لم يعرف طعم الراحة حتى ندم (فأصبح من النادمين) والندم هو أول التوبة والاعتراف أنه أخطأ في تصرفه. وهو يعني بكلمة ثانية أن المقتول أصبح شهيداً لإنه استطاع أن يمنح موقفه الاستمرار بعد موته.
في الواقع كل كلامنا لاقيمة له ولايعني شيئاً مالم يتشكل تيار جماهيري يشق طريقه على نحو ميداني تطبيقي يغير قناعات الناس أن هذا الأسلوب هو خير زكاة واقرب رحما.
يروى عن غاندي أن أعمال العنف عندما اشتدت في كلكتا بين المسلمين والهندوس واحتار السياسيون في ضبطها ذهب فاعتكف هناك في بيت مسلم وأعلن الصيام حتى الموت أو تتوقف أعمال العنف وعندما انزاحت نوبة الجنون عن الناس وتوقف الغوغاء عن القتل جاءه هندوسي يقول إن المسلمين قتلوا ابني قال له غاندي هل أدلك على عمل يدخلك الجنة؟ أن تربي ولدا مسلما قتل والداه وأن تحرص أن ينشأ مسلما كما تمنى له ذلك والداه.
التعليقات