يوسف عليه السلام طلب المنصب مقابل إنقاذ شعب مصر من مجاعة قادمة لسبع سنين عددا، ولو أن المجاعة والقحط لم يضرب مصر لكان مصير يوسف الإعدام.
كانت مراهنة يوسف كبيرة ولكنه كان صديقا فنجاه الله ثلاث مرات: من الجب وحسد الأخوة. من جب المرأة الشهوانية وأحابيل الطبقة المخملية من نساء القصر. وأخيرا من التنبؤ المسبق بعاصفة قادمة في الأفق تهلك الزرع والضرع ويجب الاحتياط لها. فنجا ثلاث مرات كما قال الرب لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين.
والحركة الإسلامية في المغرب وتونس تتبوأ مقعد يوسف حاليا فإن فشلت فمصيرها الإعدام فالجماهير تصبر على الكذابين ولكن ليس لكل الوقت، وما رأينا من انفجار الأوضاع في غابة العروبة يشبه قصة المزرعة لأورويل تماما فقد انتفضت الغنمة والدجاجة والحصان في وجه الخنازير وذراريهم من الفاسدين النهابين.
انتصرت الحركة الإسلامية في تونس والمغرب بالانتخابات فلا تفرح بالمناصب والحقائب الوزارية بل تلبس أوفر هول العمال وتمسك المكنسة مثل أي عامل والبدء بتنظيف المجتمع بعد إحصائه ودراسته لكنسه من الفساد والبدء ببناء دولة عصرية جديدة للخروج من زمان دول المماليك فالوقت ليس للجلوس في الكراسي بل بنسفها والنزول إلى الشارع للعمل مع الكادحين.
ينقل عن نابليون أن أخطر تحدي يواجه المنتصر هي لحظة الانتصار فيدور رأسه ويتزحلق فيقع فلا ينهض.
أذكر هذا لأن أمام الحركة الإسلامية في العالم العربي اختبار صعب يسقط فيه أعظم اللاعبين ألا وهي السياسة والقيادة، في بلاد كسيحة منذ أيام كافور الإخشيدي.
في نوفمبر من عام 2011م انتصرت حركة النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في المغرب، وهما تياران إسلاميان، في انتخابات وصفت بالنزيهة والشفافة، وبذلك قفز الإسلاميون إلى سدة يوسف الذي اعتلى عرش العزيز، ووضع يده على خزائن الأرض فكان الحفيظ العليم.
ولكن هل حركة النهضة في مقام يوسف؟ أم العدالة والتنمية تتبوأ مكانة الصديق؟
أذكر جيدا من السيرة حين فاجأ الوحي نبي الأمة بدأ يرجف ويرعش حتى نزلت سورة تنصح بلف الدثار (يا أيها المدثر قم فأنذر) فالأمر ليس بردا بل تحديا بالحركة، فقال نبي الرحمة ص لخديجة الكبرى زوجته:
لقد ولى عهد النوم.
وهو ماينتظر شباب الحركة الإسلامية في الشمال الأفريقي بعد أن قالت لهم الأمة سلمناكم القيادة.
ولهم الويل إن فشلوا!
أمام التيار الإسلامي في العالم العربي مهمة دونها الجبال الراسيات، ولا أظن أنه سينجح فيها لأسباب في الحركة، وأسباب في الشلل الاجتماعي. مع ذلك فالزمن كفيل بأن يكذب مزاعمي، وأرجو أن أكون مخطئاً.
مزاعمي هذه أحاول توظيف العلوم الطبية والتاريخية لها.
لقد حاولت ألمانيا الغربية أن تحيي الشرقية التي كانت في قبضة الستازي (المخابرات الشيوعية STASI) فاشترتها مرتين؛ الأولى صفقة مع جورباتشوف أن لا يتدخل الجيش الأحمر حين انتفض الناس في خريف 1989م، والثانية حين أرادت بناءها فأنفقت 1300 مليار يورو بدون فائدة، والسبب هو الكساح والشلل الطويل.
نحن نعرف هذه الظاهرة جيدا في عالم الطب والبيولوجيا فكل عضو لا يستخدم يضمر، وكل مفصل لا يتحرك يتكلس، وهكذا.
حين يبقى الإنسان في العناية المشددة أمدا طويلا ثم يستيقظ من سبات نبدأ بعملية التأهيل لمفاصل متيبسة وعضلات ضامرة وعظام مترققة وهي مهمة طويلة مزعجة مؤلمة وأحيانا لا تنجح، وإذا نجحت مشى صاحبها بتعثر وتطوح وترجرج فلا يعود سويا كما كان. نموذج هذا في المعارضة السورية ولماذا هي مزع ومزق!
وهذا هو حال الشعوب التي تقع في قبضة الأنظمة الشمولية لفترة طويلة. ومن المفروض أن تموت فلا تنهض؛ فالحياة والموت مفردات من نفس النبع، ولكن روح الله في الإنسان هي التي تدفعه للثورة فيتقدم للموت وهو مؤشر عجيب على جنون الإنسان فعلا وجدليته المحيرة كيف يستقبل الشباب الموت كما رأينا في حمص في سوريا.
الناس في سوريا يسمون الحماصنة جدبان! أي خفيفو العقل! فعلا إنهم مجانين بهذا المعنى. حمق بهذا المعنى. لأنهم يولِّدون المعنى والحياة!
مشكلة الحرية والديموقراطية والسلام والعدل والتنمية أنها أكبر من الكلمات، فكيف سيتعلم الجاهل؟ ويأكل الفقير المعتر؟ أم كيف ستنتشل المرأة نفسها من طبقة الدونية وتتحول إلى كائن غير مهان؟ كيف سيتم التخلص من جيوش المخابرات والعسس والجاندرما؟ والقضاء على ديناصورات الفساد؟ كيف سيمشي البلد في طريق الازدهار؟ كيف سيرتفع دخل المواطن وينعم بنظام صحي معقول؟ كيف سيتم تأمين السكن لملايين من المشردين والحرية لمدن العبيد؟
إنها مهمة دونها الجبال الراسيات؟
صدق القرآن حين قال أن الأمانة عرضت على الجبال والسموات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان فتورط إنه كان ظلوما جهولا؟
نحن أمام جدلية غير قابلة للحل فإذا كان الإنسان ظلوما جهولا فلماذا يتورط فيحمل أمانة عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها فحملها الإنسان؟
هناك انتخابات في العالم العربي، ويظن الناس أنهم وصلوا إلى شاطيء الحرية بسلام، وأنهم دخلوا عصر التنوير، ولكن من دخل عصر التنوير من باب السياسة دخله من الباب الخلفي، وحينما كان الفيلسوف (إيمانويل كانط) يكتب رسالته حول التنوير (Die Aufklaerung) لم تكن هناك انتخابات في ألمانيا.
اتصلت بصديق لي كان مغموسا في الانتخابات إلى قراريط أذنيه قلت له هل انضممت إلى جوقة السياسيين؟ هز رأسه بأسف وقال سياسيون بلا سياسة صدقت.
الانتخابات لا تعني الديموقراطية، ولكن وعي الجمهور، ولن يستطيع ديكتاتور أن يركب رقبة شعب واعي.
استفدنا من مالك بن نبي حين نقل خرافات الصوفية إلى صناديق الاقتراع فقال إن الفرق الصوفية القديمة تحولت إلى أحزاب سياسية، وأصبحت بطاقات الانتخابات حروز وتمائم.
كما أن الديموقراطية مفهوم رجراج ولكنها الموضة الدارجة اليوم، ونفس ديموقراطية أثينا ضحت بأعظم عقل بشري فأرسلت سقراط إلى الإعدام.
وما أريد أن أقوله أن رصيد الانتخابات هو الوعي أكثر من صناديق الانتخابات، وأن التمثيل الفعلي لإرادة الأمة يعتمد على آليات تخضع للوعي والمراقبة، فلا يعول مطلقا على الطيبة عند الإنسان.
وأي إنسان ملك القوة تحول إلى طاغية، وأي سيارة ليس فيها فرامل مصيرها إلى الكارثة، وأي مجتمع يمسكه صداديم وقذاذيف صغار وكبار فمصيره إلى الهلاك؛ ما لم تنفجر ثورة فتحرر!
ولكن قول هذا سهل؛ فالعراق خلص من صدام فنبت من رماده صداديم كثر، والقذافي لم يكن ليخلص منه الليبيون بدون الناتو؛ فهذه حقيقة صادمة فاجعة مؤلمة، ولكنه هذا هو دأب الحقائق أنها موجعة ولكن لا يقولها أحد؛ فوجب على الكاتب أن يقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا.
الانتخابات الحديثة هي نسخة مزورة عن ديمقراطيات الغرب، والديمقراطيات الغربية ليست تماما تنبع من تراثنا، بل هي غريبة علينا مثل السيارة والطيارة والكمبيوتر!
فهل من نموذج خاص بثقافتنا يولد فيه الإنسان محررا من علاقات القوة والمال؟
نحن نحكم بالمخزن والمخابرات والقوة والعسكر والمسدس والسيف منذ أيام الانقلاب الأموي، ولا نعرف الشورى ولو بالشمم والرائحة من مسافة سنة ضوئية، وتاريخنا هو خلاصة من قنص السلطة الدموي والمحافظة عليه بالدم، شاهد هذا مناظر الدم في سوريا واليمن.
بالمقابل في الغرب من يسود ويتبوأ هو من يملك المال فيحرك الآلة الدعائية لحسابها فيصل إلى الكونجرس الأمريكي من رأيناهم يصفقون مثل القرود للصهيوني نتنياهو، وهو ما يذكر بمجلس قرود البابون في سوريا (عفوا مجلس الشعب).
في الكونجرس قرود الأورانج أوتان وفي سوريا قرود البابون بنسخة من قرود ممسوخين.
آلية الديموقراطية الغربية تقوم ليس على نموذج (إكراه وقوة) المخابرات في جمهوريات الخوف والبطالة التي تسوق الناس بالسوط عبيدا خائفين.
في أمريكا والغرب من يسوق الناس قوة المال من خلف جدار فيمشي الناس عميا مسحورين. مع أننا نعلم أن السحر خيال كما فعل سحرة موسى في الحنش وأفاعي الصل (خيل إليه من سحرهم أنها تسعى ).
السحر ليس حقيقة ولكننا ما نرى في عالم السياسة هو الحقيقة التي تمشي على وجه الأرض في عالم الجملوكيات والكونجرس الأمريكي.
الوهم لا يعني الحقيقة، ولكن هذا وهم؛ فهناك العديد من الأوهام يتغذى عليها الناس بقوة هي أشد من الحقيقة؛ لأن الأثر والمفعول لما يعتقد الناس بعيدا عن الحق والحقيقة.
في (الحديث) أن الإنسان الذي يقدم نفسه للولاية لا يمنح هذه الولاية، وهي آليات الديموقراطيات الحديثة، فجاء في الحديث quot;والله إنا لا نولي هذا الأمر أحدا سألهquot;.
وفي الحديث أيضاً إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، ومنذ زمن بعيد ذهب المثل العربي quot;يا حبذا الإمارة ولو على الحجارةquot;.
وذكر (أبو حامد الغزالي) في كتابه (إحياء علوم الدين) أن آخر ما يخرج من قلوب الصالحين هو حب الرئاسة، وعلل ذلك بأنها متعة الألوهية.
والتوحيد أصله سياسي وليس لاهوتيا، وإلا لكانت بعثة الأنبياء والرسل في التاريخ سهلة.
ولا إله إلا الله تعني نسخ ألوهية البشر السياسية. ومشكلة العالم العربي الحالية هي الوثنية السياسية لو كانوا يعلمون.
والغرب حل هذه المشكلة العويصة فلم يعد الحاكم إلهاً، وكان من قبل كذلك. والملك هنري الثامن تزوج ستة زوجات طارت رؤوس ثلاثة منهن بالمقصلة على الشبهة وكان يردد أنا الملك مفوض من الله، وهو الذي أنشأ الكنيسة الأنجليكانية فأصبح بابا في لندن.
وحيثما دخلت الحدود العربية طالعتك أوثان ثلاثية بما يذكر بعقيدة التثليث عند الكنيسة، وهذا يخبر عن أهمية الأمر الذي ألح عليه القرآن في نسخ عبودية البشر، وأنه ما أرسل من رسول إلى قومه إلا بهذه الكلمة يا قومي اعبدوا ا لله مالكم من إله غيره أفلا تتقون.
والسياسيون الكذابون اليوم هم مثل سحرة موسى يلقون حبالهم وعصيهم لجمهور أمي يستقي ثقافته من محطات فضائية تنشر التضليل أكثر من الثقافة، بعد أن ودع الجمهور الكتاب وتحول إلى ثقافة المشافهة، ولم تكن المشافهة يوماً ثقافة.
وحينما تدعي أمريكا أن مهمتها زرع الديموقراطية فيجب أن نفكر في الموضوع ألف مرة، وحسب (سيمور هيرش) في حديثه عن حروب أمريكا المستقبلية قال أن أمريكا تعتمد أصدقاء ديكتاتورين في المنطقة العربية، وذكر بلداناً ثورية عربية دأبت على شتم أمريكا ظاهرياً والتعاون معها سرياً.
وحينما نسمع حوار اثنين من السياسيين العرب عن الديموقراطية والانتخابات فيجب إتباع نصيحة الفيلسوف (شوبنهاور) أن نراقب حوارهم مثل أي مسرحية هزلية يؤدي دورها أحمقان.