من مفكرة سفير عربي في اليابان
وصلت الامبراطورية الرومانية لذروة توسعها في القرن الثاني بعد الميلاد. وبدأت في الانهيار بعد القرن الثالث بعد أن زادت الخلافات والصراعات بين حكامها، ليرتفع الصرف على العسكر وتزداد نسبة الضرائب، ويترافق ذلك بازدياد نسب الفقر، وإنخفاض النمو الاقتصادي، وارتفاع نسب التضخم. وقد ادى ذلك لانتشار عدم الاستقرار في هذه الامبراطورية الشاسعة، وضعفها، مما شجع البرابرة لغزوها ليؤسسوا امبراطوريتهم في الجزء الشمالي من الأمبراطورية الرومانية الغربية. وقد جدد قسطنطين الكبير في عام 330 المدينة البيزنطينية، وسماها باسمه القسطنطينية، كما أخذت المسيحية في الانتشار تدريجيا منذ القرن الثاني وحتى القرن الخامس، وقد زاد الطين بلة حينما بدأت الخلافات الدينية وتشكل طوائف متنازعة بين أنصار المسيح، عليه السلام. ولتبدأ العصور الوسطى من القرن الخامس ولتستمر حتى القرن الخامس عشر، حيث بدأ بزوغ الإمبرطورية الإسلامية في القرن السابع لتنتشر في الجزء الشرقي من الإمبرطورية الرومانية التي كانت تسمى بالإمبراطورية البيزنطية. وقد بدأ عصر النهضة الأوربية بالثورة الفكرية على قيادات الكنيسة، والتي ترافقت بالإصلاحات البرتستانتينية في عام 1517، وأخذت الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بالتطور، وخاصة بعد الرحلة المشهورة لكريسستوفر كولمبوس للقارة الامريكية في عام 1492، وبعد غزو غرناطة في عام 1504، وموت الملك فريناند الثاني في عام 1516.
وقد تبلور عهد النهضة الثقافية الأوروبية في ايطاليا، وليمتد لباقي دول اوروبا في الفترة ما بين القرن الرابع عشر والسابع عشر، بعد أن إنتهى عصر الامبراطورية العربية الاسلامية، وأخذت تضعف الامبراطورية العثمانية الاسلامية، التي استمرت في التدهور حتى القرن العشرين. وقد ساعد تطور صناعة الورق والطباعة لانتشار الافكار النيرة، وترافق ذلك بتطور التعليم، كما ساعدت النهضة الثقافية في تطور الدبلوماسية، والعلوم الطبيعية، والإنسانية، حيث زاد الاهتمام بالملاحظة والاكتشافات العلمية، مما أدى لتطور التكنولوجية الصناعية، وترافق ذلك ببروز اكتشافات علمية جديدة. وليبدأ الإنسان برحلة جديدة من تاريخه، ليعمل في رضخ الطبيعة لخدمة رغباته. بل تطور الوضع مع الوقت لنوع من العداء ضد الطبيعة بشكل مادي استهلاكي غير روحاني. فقد تصور الإنسان بأنه قد استطاع السيطرة على قوى الطبيعة وتوجيهها كما يشاء، لتتحول فكرة التالف والتناغم مع الطبيعة، لتصور السيطرة عليها، واستغلالها، بل ومحاربتها، لتتطويعها لخدمة استهلاكية لحاجياته، بل تخلفت هذه الافكار لتبدأ الافكار العنصرية، بأن يصنف أيضا البشر لأصناف سوداء أو دونية، وأصناف اخرى بيضاء فوق البشر، وخاصة بعد امتداد الاساطيل الاوربية لمختلف ارجاء كرتنا الارضية، واستعمار الكثير منها، واستغلال شعوبها كعبيد ملونين.
ومع الأسف الشديد استمرت هذه الافكار العدائية تتوغل ليس فقط في العلوم الانسانية بل ايضا في العلوم الفيزيائية والبيولوجية الطبية. وبينما بدأ الطب الغربي في تطور علمي مادي، تناسى الروحانيات الانسانية، بل وحتى التناغم الجميل بين الإنسان وما حوله، من طبيعة خلابة، ومخلوقات متنوعة، متناسقة الوجود. وخير مثل لذلك الحرب بين إنسان عصر النهضة الأوربي والطبيعية بكائناتها الحية، هو التطورات في الرعاية الصحية، ومفهوم القضاء على الميكروبات والجراثيم. فبعد أن تطورت الأبحاث العلمية في اكتشاف الأسباب الحقيقة وراء بعض الأمراض الإنتانية، وبدء البحث عن أدوية تستطيع القضاء عليها. توصل العلماء لدور المكيروبات والجراثيم في تسبب بعض ألأمراض، لتبدأ حرب شرسة ضد جميع الميكروبات ومحاولة القضاء عليها، بدون التساؤل لماذا وجودت الميكروبات والجراثيم في هذا الكون؟ فهل هي متواجدة لتمرض الإنسان؟ أم هي موجودة لخدمة الطبيعة والإنسان بتناسق إلهي جميل؟ وهل هي تسبب ألأمراض أم يؤدي التلاعب الهمجي بالطبيعة ومخلوقاتها الصغيرة والكبيرة لفقد هذا التوازن الخلقي الإلهي الجميل، مما يؤدي لتغيرات للدفاع على النفس، لتلعب دورا في مرض الإنسان وعلته؟ وهل هذه العلة تنتج من شراسة هذه الميكروبات والجراثيم العدائية، أم هي نتيجة لضعف مناعة الإنسان، بسبب تغير النمط الحياتي الطبيعي في فقد التوازن بين الحركة، والأكل، والشرب، والجهود الفكرية المضنية والمسببة للقلق؟ وما دور فلسفة الطب الحديث في زيادة شراسة هذه الميكروبات وصعوبة علاجها بمقاومتها المضادات الحيوية؟
بدأت رحلة الإنسان مع الميكروبات والجراثيم منذ زمن طويل، وتذكر كتب التاريخ بأن الخليفة هارون الرشيد طلب من أطبائه اختيار موقع مناسب لمشفى جديد. فقام أحد أطباء العرب المشهورين في ذلك الوقت بدراسة عدة مواقع مختلفة، ووضع في كل موقع عدة طيور مدبوحة. وحينما قابل الرشيد واقترح الموقع الذي تصور بأنه مناسب للمشفى، حاول الرشيد معرفة السبب في هذا الاختيار، فرد الطبيب عليه بالقول: لقد راقبت سرعة تحلل الطير في المناطق المختلفة التي أختيرت، فأخترت الموقع الذي كان تحلل الطير فيه الأبطئ، لاعتقادي بأن هواء ذلك المكان أكثر نقاءا. وكأن هذا الطبيب يقول للرشيد بأن هواء هذا المكان أقل تجرثما بالميكروبات.
لقد كان العالم متحيرا منذ عصر أبوقراط وحتى أكتشافات لويس باستور، في أسباب الامراض الانتانية، لتبدا ثورة في هذا المجال منذ عام 1879 وحتى عام 1900. وقد لعب العالم الفرنسي لويس باستور، والكيسندر فليمنج، وادوارد جنر، وروبرت كوخ، دورا كبيرا في فهمنا لدور الميكروبات والجراثيم في الامرض الانتانية. وتبدأ قصة الجراثيم مع ولادة العالم البريطاني ادوارد جنر في عام 1749، والذي عاش حتى عام 1823. فقد درس جنر الطب، وكان ملهما بحب الطبيعة، وحاول اكتشاف اسرار مخلوقاتها منذ صغره. وفي أحد الأيام تذكر بأن النساء التي تحلب الأبقار في بريطانيا مشهورة بعدم أصابتها بمرض الجدري الذي كان يقضي على الملايين من البشر في ذلك الوقت، فبدأ البحث في سر هذا الأمر، فعرف بأن هذه النسوة تصاب بمرض جدري الأبقار، والذي يؤدي بتقرح بسيط في اليد بدون أن يسبب إختلاطات خطيرة أو مميتة. وبعد أن درس جينر هذه الظاهرة استنتج بأن جدري البقر يصيب هذه النسوة ويؤدي لخلق مناعة لديهم ضد مرض جدري البشر، وحاول أن يثبت نظريته هذه، فقام بتجربة على ولد يسمى بجيمس فيب. فأخذ قيح من قروح يد أمرأة تسمى بسارة، مصابة بجدري البقر، وحقن هذا القيح في جسم الولد جيمس فيب، وأستمر في تكرار حقن القيح وبكميات متزايدة. وبعد فترة، قام بحقن قيح من مرضى مصابين بمرض جدري البشر في جسم فيب، فلاحظ بأن هذا الولد مرض مرضا بسيطا، ولكنه شافي منه بعد عدة أيام شفاء كاملا. واستنتج الطبيب جينر بأن تلقيح الولد جيمس فيب بقيح مرض جدري البقر، قد خلق مناعة لديه ضد جدري البشر. وقد قررت الحكومة البريطانية في عام 1840 بأن يكون هذا العلاج الوحيد، لمنع انتشار مرض الجدري. ومن هنا بدأت رحلة العلاج باللقاحات للأمراض الانتانية.
وقد لعب العالم الفرنسي لويس باستور، الذي ولد في عام 1822، دورا مهما في فهمنا للامراض الانتانية، فقد برع في الدراسة ليصبح عميد لكلية العلوم وهو في الثلاثين من عمره. وقد زاره صديق له يملك مصنع لصناعة المشروبات، فشكى له عن معاناة مصنعه من تعرض مشروباته للحموضة، بسبب تخمر ما. فدرس باستور هذه الظاهرة، فافترض بأن سبب هذه الظاهرة وجود بعض الميكروبات التي تحول المشروبات إلى حمض الخل. ولم يتصور علماء ذلك العصر أن تكون نظرية باستور صحيحة، وأتهموه في أفكاره الخيالية الغير واقعية. وقد عاني باستور الكثير حتى استطاع أن يثبت للعالم بصحة نظريته، بأن هناك كائنات حية صغيرة جدا، يمكن أن تسبب امراض مختلفة.
وبعد إكتشاف الجراثيم والميكروبات بدأت رحلة تاريخ الطب في العالم بعلاج الأمراض الانتانية. فقد لاحظ طالب فرنسي، ارينست دوشيسن، في عام 1896، بأن الجراثيم العنقودية أخذت تتتموت بتواجد فطور quot;بنسيلين نوتاتمquot; بقرب منها. واستمرت هذه الملاحظة معلقة في المدونات الطبية حتى عام 1928، حينما اكتشف، مرة أخرى، العالم البريطاني اليكسندر فلمنج، الذي كان يعمل بمستشفى سانت ماري بلندن، بأن الجراثيم العنقودية تتموت بتواجد فطور خضراء زرقاء حولها. فقرر أن يقوم بزراعة هذه الفطور ليستخلص منها مادة يمكنها قتل بعض الجراثيم المسببة للأمراض المعدية، وسمى هذه المادة بالبنسيلين. وقد نشرت أبحاثه في عام 1929، ليؤكد فيها بأن البنسيلين له خواص علاجية ضد الجراثيم، ويمكن إنتاجه بكميات تجارية لعلاج المرضى. وهنا تبدأ رحلة تاريخ الطب مع المضادات الحيوية والتي أخذت تصنع بتنوع كبير، وتستخدم، أحيانا بشكل مفرط، لتبرز تدريجيا أنواع من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، والتي من الصعب علاجها. كما تحولت الفلسفة الطبية من أن العلاج يعتمد على تقوية مناعة المريض لكي يقاوم جسمه الأمراض، لفلسفة حرب شرسة ضد الكائنات الحية الصغيرة التي قد تؤدي لأمراض خطيرة إذا ضعفت مناعة الجسم. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن هذه المضادات الحيوية لها تأثيرات جانبية خطيرة على الجسم وعلى البيئة إذا لم تستخدم بفلسفة طبية حكيمة. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان