من قبل إسقاط النظام بكثير، طبعا بقوة الأمريكان وأموالهم وليس بسواعد الأحزاب الحاكمة اليوم، كان هناك خلافٌ، بل صراع، بين جبهتين من المعارضين العراقيين، الأولى هي جبهة العراقيين المستقلين المعارضين للديكتاتور، من كل أطياف ومكونات الشعب العراقي دون تمييز أو استثناء، سواء الذين اضطروا إلى الهجرة من الوطن والتغرب والتشرد في أرجاء المعمورة، أو الذين فضلوا البقاء وتحملوا مخاطر القمع والاعتقال والاغتيال. هؤلاء، وأعدادهم بالملايين، فضلوا أن يحترموا شعبهم وأنفسهم فيرفضوا الحضانة المشتركة الإيرانية السورية الأمريكية، ويتقبلوا الإهمال والإبعاد والتهميش، بل إن بعضهم كان ضحية للتخوين والتسقيط بالأكاذيب والاتهامات والقصص المفبركة، وبعضٌ آخر منهم سقط شهيدا بخناجر أزلام النظام، في الداخل والخارج، وتسجل جريمة اغتياله ضد مجهول.
هذه الفئة من المعارضين كانت وظلت، في نظر مواطنيها، بريئة من سفك أي دم عراقي، ومن العمالة والخيانة والفساد.
أما الجبهة الثانية فهي التي تزعمتها وامتلكت مليشياتها شلة ُ القادة السبعة الكبار التي ركبت ظهر الوطن، من نيسان/ أبريل 2003 وإلى اليوم، عنوة، ثم بانتخابات ٍ لا تختلف كثيرا عن استفتاءات بشار، ولا عن انتخابات علي عبد الله صالح، ولا عن مبايعات القائد الضرورة.
وقد ذاق العراقيون، ويذوقون، كلهُم ودون تمييز، ديمقراطية هذه المُحاصصة وديمقراطية هؤلاء المتحاصصين.
وهاهو الوطن، تحت قيادتهم الرشيدة، وقد تحول إلى خرابة حقيقية لا يأمن المواطن فيه على نفسه ولا على رزقه. يسأل، ولا أحد يجيب، متى تجيء الكهرباء، ومتى يأتينا الماء والدواء والغذاء، في دولة ٍ ميزانيتهُا لهذا العام تجاوزت مئة مليار دولار، بالكمال والتمام؟.
لم تبق منظمة إنسانية دولية محايدة ومهنية إلا وضعت دولتنا العتيدة في كعب قوائم الدول الفاشلة، وعابت علينا أمننا المضطرب والمفقود والمخترق، وحقوق إنساننا الممزقة، وفسادنا المالي، وتخبطنا الاقتصادي، وعشوائيتنا السياسية، ونَهْبـَـنا المنظم لكل ما تحت الأرض وما فوقها، علنا ودون خوف أو حياء.
لا أحد يستطيع أن يبريء، من جريرة الوضع المزري، لا هذا الحزب ولا ذاك، ولا من هذه الطائفة ولا من تلك. شلة من الشطار (الحنقبازية) الذين يقتلون القتيل ويمشون في جنازته، يسرقون ثم ينادون بالقصاص من اللصوص، ويكذبون على أنفسهم، قبل أن يكذبوا على الله ورسوله وعلى شعبهم، وهم يعلمون.
من زمان بعيد وقراءُ مقالاتنا من حبايب نوري المالكي وحزب الدعوة ودولة القانون يشتموننا ويتهموننا بالتحامل، ويستغربون إصرارنا على ترحيل دولة الرئيس وبطانته المعوقة.
لكنهم يسكتون ويلوذون بالفرار حين يلطم السيد السيستاني، نفسُه، وجوه َ الحكام الفاشلين، ويُعنفهم ويُحملهم مسؤولية خراب البيوت، ويهاجم العملية السياسية البائسة.
فكم من مرة خطب معتمد السيد السيستاني لعلن أن ظاهرة الفساد المالي والاداري تنتشر بشكل متزايد في مؤسسات الدولة، الصغيرة منها والكبيرة، وذلك بسبب عدم نزاهة وكفاءة ومهنية بعض المسؤولين والموظفين، لأنهم تسلموا تلك المناصب لانتمائهم الى أحزاب وجهات معينة؟.
وكم مرة قال بعلو الصوت quot; إن هناك دولا فقيرة لاتملك ثروات وإمكانات كما يملك العراق لكنها نهضت بواقعها الخدمي والعمراني؟quot; . وكم من مرة أيضا شدد على quot; ضرورة اختيار العناصر الكفوءة في مواضع العمل، بعيداً عن الانتماءات السياسية والطائفية، ومراقبة وتدقيق الكثير من عقود المشاريع التي يشوبها الفساد؟quot;.
ليس هذا وحسب. بل حتى السيد محمد بحر العلوم، أولُ رئيس ٍ لمجلس الحكم الخائب سيء الصيت، والأكثرُ تقبيلا لثغر بول بريمر ووجنتيه، والأشد ُ إلحاحا على ضرورة الهيمنة الأحادية على الدولة، من قبل رفاقه قادة الأحزاب المُعممين، راح أمس يهاجم السلطة القائمة اليوم، ويعلن أن العراق شهد سقوط الديكتاتور لكنه لم يشهد سقوط الديكتاتورية.
إن الذي جرى، منذ إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة وإلى يوم المائدة البرزانية المستديرة في أربيل أواخر 2010، وما جرى بعدها في سنتين طويلتين ثقيلتين من حكم حزب الدعوة ودولة القانون، كافٍ لإقناعنا بأن في ثياب السيد المالكي صداما آخرَ أشدَّ بطشا، وأكثرَ شهوة للسلطة، وأكثر إصرارا على ممارسة الحكم بروح القائد الملهم الذي يرفض المشاركة والمكاشفة والمحاسبة من أي ٍكان من رفاقه المتحاصصين. فهو وحده الأشجع والأذكى والأفهم والأعلم والأحقُ منهم جميعا بالقيادة والزعامة.
أتقن المناورة والمحاورة لترغيب خصومه الأشداء، وترهيب أعدائه الضعفاء، ومن حوله حاشية ٌواسعة من مستشارين وتابعين موهوبين بالقدرة على شم رائحة الدينار من ألف ميل وهم يجاهدون جميعا في تمجيده وتلميعه وتمهيد الطريق له ولحزبه لوراثة السلف الراحل، وفرض سطوة الحزب الواحد، شيئا فشيئا، لنعود مرة أخرى إلى زمن القائد الضرورة.
فكل شيء لحزب الدعوة. فإذا أعيتك السبل في أمر من الأمور فعليك بواحد من أعضاء الحزب القائد ليفتح لك الأبواب المغلقة. أما إذا كبرت عليك العقبة فما عليك سوى أن تطرق أبواب السيد أحمد المالكي أو شقيقته إسراء. إن رئس وزرائنا يفعل ما كان يفعل سلفه، في بداية عهده بالقيادة. يحالف هذا ليضرب ذاك، ويحتضن (شين) ليجتث (عين). والحبل على الجرار، والدائرة تدور ولن تتوقف حتى نرى المالكي وقد وضع على رأسه عمامة أمير المؤمنين.
الشيء الوحيد المقدس لديه هو الكرسي المذهب وحده لا غير. تماما كصدام حسين. فمن يخدم ذلك الكرسي ويحرسه ويُمد في عمُره، شيعيا كان أو سنيا، عربيا أو كرديا، مسلما أو مسيحيا، يكون من المقربين المعززين المكرمين، ومن تسول له نفسُه المساس بقدسيته وقدسية الجالس عليه فليس له سوى السياط، وربما الكواتم والتهم الملفقة. والملفات مكدسة وجاهزة لاستخدامها عند الحاجة الوطنية العليا المقدسة.
فها هو خصمه العنيد أياد علاوي أخرج من الطبخة خالي الوفاض، ويوشك عقد القائمة العراقية أن ينفرط، بمجرد أن لوح المالكي لبعض قادة مكوناتها بمناصب وزارية أو بمكاسب أخرى مغرية.
ومقتدى الصدر وتابعوه، بعد أن تراجعوا عن خصومتهم معه وجاؤوه نادمين مباركين، عادوا فأعلنوا، على لسان السيد نفسه، أن المالكي ديكتاتور. وعمار الحكيم يتضاءل هو ومجلسُه، يوما بعد يوم، ويسير حثيثا نحو المقاعد الخلفية، بهدوء، مُلقيا بمفاتيح الائتلاف الوطني في حضن الزعيم الصاعد وحزبه القائد، دون سواه.
هذا كله في العراق العربي. أما العراقُ الكردي فليس لأحدٍ سلطانٌ عليه، لا من قريب ولا من بعيد. فالقادة الكورد أصبحوا سادة في العراق الصغير، وسادة في الكبير، ولن تمسهم يدٌ بشيء. يلعبون بالمالكي ومعارضيه، معا، كما يلعب الصغار بكرات الطين.
وهو معهم في كر وفر. يعدهم تارة بكل ما أنكره عليهم من قبل، ثم يشاكس تارة أخرى ويماطل. يومٌ بارد ويوم حار. يوم ٌ صحو وأيامٌ غائمة ومرعدة ومبرقة، من عداوة إلى عداوة، ومن شقاق إلى نفاق، وهكذا دواليك.
وها هو اليوم، بعد سنوات من الخصومة والشتائم الساخنة للسعودية يسعى، بيديه ورجليه وأسنانه وأظافره، ليمد حبل الود بينه وبينها، ولو إلى حين، لهدف واحد صغير هو سحب البساط من تحت أقدام خصومه المتمولين من أصحاب الخزائن العامرة.
وبين هذا وذاك سيمضي هو وحواريوه في احتلال المتبقي من الدولة العراقية، قطعة قطعة، وفي نشر جناحيه على مؤسساتها الواحدة بعد الأخرى، بصمت وهدوء. ومن الآن وحتى موعد الانتخابات التالية سيكون قد وضع في جيبه مفاتيح الوطن كلها، ومَلك َرقابَ أهلنا أجمعين.
في كل يوم له جلد لا يشبه جلده القديم. فيوما مع المصالحة ويوما ضدها، مرة مع الدستور ومرة يلعن أبَ الدستور، في ذات صباح ديمقراطي وفي الليل طاغية وجزار.
تأملوا آخر (شقلباته) المفزعة. فبعد أن أعلن قبل يومين في مقابلة مع جريدة العالم العراقية عن اعتقاده بأن الأزمة السورية ستطول، وبأن نظام حبيبه بشار موجود، وسيبقى، وبعد أن استهجن استعانة الجامعة العربية بمواقف دولية لحل مشكلة سوريا، عاد فنسف اعتقاده ذاك، كله، وجامل السعودية وباقي دول الخليج، فأعلن في مقابلة مع صحيفة عكاظ السعودية أنه يؤيد quot;التغيير في سورياquot; وأن الأوضاع فيها quot;لن تستقرquot; دون هذا التغيير.
وقال في المقابلة التي نشر مكتبُه الاعلامي مقتطفات ٍ منها quot;لا بد من منح الحريات الكافية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء انتخابات نزيهة وتحت اشراف أممي وعربي، ومجيء مجلس وطني هو الذي يقر الدستورquot;.
بربكم أي واحد من توقعاته نصدق؟ وهل هذه صفات واحد يمكن أن يقنعنا بأنه زعيم محترم وصريح وجريء وثابت على المبدأ والعقيدة والرأي؟ وهل يستحق أن نستأمنه على مصيرنا ومستقبلنا وكرامتنا؟ ثم هل سيحترم العالم قائد دولة يتقلب ذات اليمين وذات الشمال؟
بجد وبصدق، هل يستحق العراقيون الطيبون هذه الدولة وهذه (البهذلة) و(الشرشحة) وكل هذا الذل والهوان والفقر والفساد والخوف من المجهول؟.