لا ينكر الا جهول مُكابر وعنيد دور قناة 'الجزيرة' في تغيير المشهد الإعلاميّ العربيّ، ورفع حرفيّة الأداء المهنيّ لدى كلّ الإعلاميين العرب الذين تسارعوا للارتقاء بعملهم إلى مستوى ما يقدّمه إعلاميو هذه القناة. ولا اختلاف حول دور هذه المحطّة الفضائيّة في تبصير العيون المُغمضة، وحملها على اكتشاف صورة جديدة ثلاثيّة الأبعاد قُدَّت من مهنيّة في تقديم الخبر، وحرفيّة في تحليله، وتمكّن آسر من اللّغة العربيّة السّاحرة. وأين الغرابة في ذلك و قد أمست هذه القناة قبلة أهمّ الأسماء في مجال الإعلام العربيّ'؟
ومن البرامج التي شدّت الجمهور الواسع ومازال يُقبل عليها بشغف برنامج 'الاتّجاه المعاكس' الذي يقدّمه quot;فيصل القاسمquot; هذا الإعلاميّ الذي تمرّس بالعمل الصحافيّ في القسم العربيّ من قناة 'بي بي سي' البريطانيّة. ولكن يبدو أنّ لكلّ توهّج أفولا، وأنّ نهايةَ كلّ نشاط خمول. فالمتأمّل بتبصّر ورويّة، في هذا البرنامج يسوؤه ما انتهى إليه من سجال عدميّ عقيم هو أقرب إلى الصراخ المنفّر والعويل المزعج. فإثر كلّ مشاهدة، لا يبقى في ذهن المتابع شيء من الكلام الذي تلوكه الألسن على مدى ساعة، و يقطعه تلاسن مصطنع ومفتعل، يسعى إليه بأسئلته الاستفزازيّة مقدّم البرنامج ليعود إلى الفصل بين الخصمين بعباراته التي أصبحت مشهورة 'بس دقيقة... يا جماعة ...' وما أشبه المقدّم في هذه اللحظة بحَكَم في حلبة مُلاكمة ما إن يفصل بين الملاكمين المتشابكين حتّى يدفعهما إلى معاودة العراك ليتدخّل مرّة أخرى في حركة لا تنقطع'!!. بماذا يستفيد المشاهد من معركة كلاميّة ينزل فيها السّجال إلى مراتب متدنّية؟ ما الذي يجنيه غير فنون الصّراخ أو العويل؟ ألسنا بحاجة ،في هذا الزمن العربي الفارق، إلى حوار هادئ رصين متحضّر يُطبّق فيه بالفعل شعار 'الرأي والرأي المخالف'؟ هل مكتوب علينا أن تُقدّمنا أكبر قناة فضائيّة مشاهدةً في صورة ديكة تتصارع دون هدف محدّد؟ لِمَ لا يعمد المقدّم - وهو الخبير في مجاله - إلى تحديد المداخلات بالدّقيقة، وتوزيعها بالعدل بين الطرفيْن حتّى يخلّصَ برنامجه من الصراخ في الصّحراء، والخبط خبطة عشواء؟
المطلوب إلى مقدّم البرنامج إذا أراد فعلا أن يكون 'فيصلا' أن يقسّم الوقت بين ضيفيه بعدل حتى تتوضّح فكرة كل واحد. وللمشاهد أن يختار أيهما أكثر وجاهة؟ وإذا ما ثبت أنّ الضيفين يأتيان 'الدوحة' دون أن يلتقيا قبل الظهور في البرنامج ليحصلا فيما بعد على مكافأة جيّدة، فإنّ ذلك يؤكّد أنّ البرنامج قد تحوّل إلى مسرحيّة هزليّة يُمارَس فيها الضحك على المشاهد. وما على الضّيف المدعوّ إلا أن يُتقِن دوره في السّباب أو الردّ عليه ليحمى وطيس المعركة'!!
'الجزيرة' - دون ميل إلى 'شيطنتها'أو تأليهها - منارة إعلاميّة كبيرة قد نختلف في تقييمها، وفي توصيف الخلفيّة الإيديولوجيّة التي تتحرّك من خلالها، لكن نتّفق على حرفيّة العاملين فيها، وتقديسهم لمهنتهم. والأداء الرفيع لهذه القناة يتجلّى في تقاريرها الإخباريّة، وفي فصاحة مقدميها وفي حرفيّة العاملين فيها وفي قراءة مذيعيها و مذيعاتها للأخبار .
من الواجب - إذن - أن تتجاوز الجزيرة البرامج الاستفزازيّة التي تحوّلت إلى طاحونة كلام مُعاد، إلى أخرى تنويريّة تحديثيّة تخاطب العقل لا المشاعر، وتبعث على التفكير لا على الصّراخ والعويل. ومن المؤسف أن تتحوّل 'الجزيرة' أحيانا إلى صوت لتيّار يبدو مُعاديا لقيم الحداثة والتنوير . وهو ما لا يريده من أَمِل خيرا بظهور هذه القناة التي لم تعد مكسبا 'قطريا' بل نافذة عربية مُشرقة تخطّت المحليّة الضيّقة إلى العالميّة.
لست من العدميين الذين يكيلون للجزيرة كلّ التهم ويحمّلونها كلّ الأحزان والآلام لكنّ الواجب يدعونا إلى توضيح مكامن الخلل وأعتقد أن برنامج 'الاتجاه المعاكس' بما يعلوه من صراخ ، وبما يميّزه من حوار عبثيّ لا يفيد المشاهد، لم يعد ملائما للشكل الجديد الذي برزت عليه 'الجزيرة'. و أعتقد أن هذا البرنامج قد استوفى كلّ شروط بقائه، وانتهت مدّة صلاحيته!. فالخبر عندما يُقدّم بوضوح، ويأتي على لسان باحث مختصّ يُدلي برأيه دون مقاطعة ودون صياح 'بس دقيقة' يكون أكثر وقعا وتأثيرا في المشاهد الذي ملّ الصراخ أو العويل.
ما أحوجنا إلى أن يتوقّف صراخ الحناجر ليرتفع صوت العقل الذي نام طويلا فاسحا المجال لهيجان العواطف الذي لم يجلب لهذه الأمّة إلاّ الويلات ...ما أحوجنا إلى خطاب يقطع مع الحماسة الخادعة ، وينحو منحى عقلانيا لا يستجدي العواطف أو المشاعر الدينيّة بل يلامس الحقيقة بعيدا عن السّتر المقيت أو الفضح الاستعراضي الذي لا همّ له إلا تسجيل موقف سرعان ما يغيب في زحمة الأحداث المتعاقبة. ماذا استفدنا من الصراخ؟ لقد صرخنا طويلا بحناجرنا في الطرقات .وبكينا ،منذ النكبة، بدموع من دم فهل تحلحل الوضع أو تغيّر؟
ما على القيّمين على هذا البرنامج الا توخّي الموضوعيّة، والقيام بنقد ذاتيّ: ماذا أضاف هذا البرنامج للمشهد الإعلاميّ العربيّ؟؟ أين كان التوفيق؟ وأين كانت مواطن الخلل؟ هل أنّ جلب ضيفين ينزل معهما السّجال إلى مرتبة السّباب السوقيّ الذي يُشبه ما يتبادله 'الفتوّات' في كلّ مكان، ينسجم مع هذه المرحلة الدقيقة التّي يمرّ بها العرب ويعيشون فيها أكبر عمليّة تهديم للذاكرة؟ هل مازال في الحناجر صوت حتى نرسله في واد لا صدى فيه'!!؟ هل نحن بحاجة إلى معركة كلاميّة أخرى تضاف إلى تلك التي تُزيّن كثيرا من القمم العربيّة المشهورة؟
سنوات من الصراخ والعويل سالت على إسفلت التاريخ فماذا أنتجت؟ ماذا خلّفت غير معارك وهميّة وانتصارات وهميّة؟ وإذا كان البرنامج يحارب فعلا - الدكتاتوريّة وتأبيد الحكم فليبدأ بنفسه ويفسح المجال لأفكار جديدة تُصاغ في قوالبَ مغايرة تنظر إلى المشهد السياسيّ نظرة استشرافيّة ترشد العقول دون صراخ وتهدّم لتبني من جديد.. ألم يستنفذ البرنامج - بعدُ -كلّ خراطيشه الكلاميّة والسّجاليّة؟ هل ما زال الصّياد يطارد ضحايا جددا؟
ما أحوجنا بدل 'الاتجاه المعاكس' إلى 'اتّجاه صحيح' ينحته العقل الموؤود قربانا للشعوذة والتطرّف والفتاوى الكهنوتية التي تتعارض مع حركة التاريخ... أ وليس الاتجاه الصحيح أن نقول للمسيء أسأت دون صراخ أو تقزيم ، ودون صياح أو نعيق ،وأن نجعل الخطأ منطلقا للوصول إلى الصواب؟