لقد أختيرت مدينة النجف عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2012، إلا أن الأخبار الواردة من هنا وهناك تشير إلى أن المشروع قد ألغي، أو على الأقل تم تأجيله لفترة قد تكون طويلة. لا أحد يعرف لماذا أتخذ هذا القرار المافجئ من الحكومة العراقية والتي عليها أن توضح ذلك بشكل رسمي، على إعتبار أن الشفافية في إتخاذ القرارات هو جزء لايتجزء من منظومة العمل السياسي والإداري في الدول الديمقراطية. على الرغم من ذلك تتسرب من هنا وهناك أسباب لا أحد يعرف مدى تأثيرها على قرار إلغاء أو تأجيل هذا المشروع.
فمن الأسباب المتداولة هي أن هناك فسادا ً ماليا ً وإداريا ً كبيرين في المشاريع التي تنفذ على أرض النجف، حتى أن البعض تحدث عن مشاريع كقصر الثقافة والفندق الكبير قد رصدت لها أموال تساوي نصف كلفتها الحقيقية. لا يخفى على أحد بأن هناك صراع وإختلاف بين الكتل السياسية على مشروع البناء، فمنهم من يتهم الآخرين بالفساد ومنهم من ينكر ذلك ولاأحد يعرف أين الحقيقة في هذا الموضوع، إذ لاتوجد جهات محايدة لفهم مايجري على أرض الواقع. ومن الأسباب المتداولة أيضا ً بصدد هذا الموضوع هي أن المشروع قد ألغي من قبل الحكومة بصفقة سياسية بين الحكومة العراقية والحكومة السعودية على أن تفتح الأخيرة سفارتها في العراق، وقد حدث ذلك بالفعل وبشكل مفاجئ، وفي المقابل تقوم الحكومة العراقية بإلغاء مشروع النجف كعاصمة ثقافية للعالم الإسلامي. لا أحد يعرف فعلا ً مدى صحة هذه الأخبار، ولماذا لاتريد السعودية لهذا المشروع أن يتم، إن صح ذلك فعلا ً، ولماذا توافق الحكومة العراقية على ذلك بعد فترة طويلة من العلاقات المتشنجة بين الطرفين.
أن مشروع النجف كعاصمة للثقافة الإسلامية مشروع ثقافي بإمتياز، إذ يمكن أن يكون له أثر كبير على العالم الإسلامي، حيث يعيد هذا المشروع إلى الأذهان مؤتمر النجف الذي أنعقد في عام 1743 برعاية نادر شاه وريث الدولة الصفوية. فبجمع كبير من علماء المسلمين السنة والشيعة تم الإتفاق على رفع السب واللعن عن قسم من صحابة الرسول، والذي يشكل جزء من مخلفات العهد الصفوي، بالمقابل تم الإعتراف بالمذهب الجعفري كمذهب يضاف للمذاهب الإسلامية المتعارف عليها، لتلغى بذلك حقبة من الإقصاء المذهبي ذات الطابع السياسي. لم يكن قصد نادر شاه في زمنه هو لم شمل السنة والشيعة بقدر ماكان يهمه فك النزاعات التي تحدث بين السنة والشيعة في صفوف جيشه، من جهة، ومن جهة أخرى تفويت الفرصة على الأتراك بتحشيد المسلمين السنة في قتالهم للدولة الصفوية وذلك بسبب التحشيد الطائفي التي تقوم به الدولة العثمانية. لقد كان هذا الرجل ذو عقلية إستراتيجة بحركته السياسية هذه حين سحب البساط من تحت أقدام الأتراك. السؤال المهم: هل يمكن لمشروع النجف أن ينتج نفس النتائج التي افضى بها مؤتمر النجف قبل أكثر من قرنين ونصف من الزمان؟ سؤال بحاجة لتأمل!
نعم، أن للنجف رمزية معينة حينما تكون عاصمة للثقافة الإسلامية. فهذه المدينة ذات الطابع التراثي الديني للمذهب الشيعي تضم رفاة الإمام علي بن أبي طالب، تلك الشخصية التي لايختلف عليها أحد من المسلمين. فمن جهة يمكن أن تكون تلك المدينة عنصر يجتمع فيه الفرقاء في هذا الزمن الذي يعيش فيه البعض على الفرقة بتأجيج الصراعات المذهبية من أجل مكاسب سياسية. ومن جهة أخرى، يمكن أن يكون حضور رموز من ممثلي السنة إلى هذه المدينة بمثابة إعتراف واضح وصريح بالمذهب الشيعي والذي يمكن أن يسحب البساط من تحت أقدام التكفيرين الذي يفتون بتكفير الشيعة وحلية دمهم. ليس المطلوب من جعل النجف عاصمة للثقافة الإسلامية هو إيجاد صيغة توحيدية لجميع المذاهب الإسلامية، فهذا شيء لايمكن أن يحدث أبدا ً لأن طبيعة البشر مجبولة على الإختلاف، وليس مطلوب أيضا ً هو توحيد السنة والشيعة، فهذا خلاف تاريخي يمكن أن يؤدي التعمق فيه إلى مزيد من الفرقة. ولكن، يمكن لهذا المشروع أن يحاصر الفكر التكفيري الذي أحدث شرخا ً في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية بتقسيم الناس على أساس ديني ومذهبي. يمكن لهذا المشروع أيضا ً أن يخفف من التوتر الطائفي الذي سيعصف بالأخضر واليابس إذا أستمر بهذا الشكل من التصعيد.
أن من المعروف أن مشروع النجف كعاصمة للقافة الإسلامية يتزامن مع إنعقاد القمة العربية في هذه السنة. فقد صرح أحد النواب بأن هذا التزامن جعل مشروع النجف يتأجل لبعض الوقت من أجل القمة العربية. إذن، مشروع النجف هو مشروع ثقافي مهم لكنه بالتأكيد لايخلو من أبعاد سياسية بعيدة الأمد وستعود نتائجه الإيجابية على عموم المنطقة وذلك من خلال محاصرة الفكر الطائفي والتكفيري في بلاد كثيرة تدور فيها صراعات مذهبية. أما القمة العربية فهي حدث سياسي مهم سيدفع بالعراق نحو جيرانه العرب بعد غياب طويل بعد سقوط النظام السابق. فالقمة العربية ستكون مكسبا ً سياسيا ً للحكومة العراقية بلا شك. لايوجد شك بأن الحدثين كبيرين ولهما أبعاد كبيرة ولكن، لايمكن التازل عن أحدهما من أجل الآخر. فإن حدث ذلك، فما على الحكومة العراقية إلا الإختيار بين ماهو ثقافي له نتائج بعيدة الأمد، وبين ماهو سياسي ربما لا تتعدى نتائجه الخطابات التي يتم التشدق بها في وسائل الإعلام. وحينها لانكون إلا بحاجة لرجل يحمل عقلية نادر شاه الإستراتيجية، ليقول لنا ماذا يمكن أن نعمل!


[email protected]