عماد رسن


في ثمانينيات القرن الماضي كان الشباب في منطقتنا الفقيرة يلبسون سراويل الكاوبوي العريضة ويصففون شعرهم بشكل مختلف عن الآخرين، يلبسون الأساور والقلائد وتجمعهم طريقة واحدة في الكلام والحركات والمواضيع المتداولة. لقد كان هؤلاء الشباب يجتمعون في أماكن مختلفة على شكل حلقات ليرقصوا على أنغام موسيقى البريك دانس. أغلب هؤلاء الشباب من العاطلين عن العمل والفارين من الجيش آبان الحرب العراقية الإيرانية. الشعور باليأس والإحباط والنظرة السوداوية للحياة والمستقبل أفكار ومشاعر كانت تجمع هؤلاء الشباب. لقد كانت تلك الظاهرة مميزة بشكل ملحوظ مما جعل الحكومة العراقية تتخذ التدابير اللازمة عن طريق وزارة الداخلية والفرق الحزبية لمكافحتها بالقوة. لقد كان سمير الشيخلي هو الشخص الذي أنيطت به مهمة القضاء على البريكية، كما تسميهم الدولة، فأخذ بملاحقتهم في كل زاوية وشارع ليرمي بهم في سجون مراكز الشرطة. لم يستطع الشيخلي القضاء على تلك الظاهرة لسبب بسيط وهو أن تلك الظاهرة اجتماعية فأما سمير الشيخلي فهو حزبي يترأس جهاز بوليسي مهمته القضاء على الجريمة وليس الحفاظ على الأخلاق. لقد كان الشباب يتناولون فشل الشيخلي بالسخرية والنكتة اللطيفة فيقولون....مرة من المرات دعا صدام حسين الشيخلي وقال له: هل قضيت على البريكية ياسمير، فرد عليه وهو يرقص البريك دانس، نعم، فلم يبق منهم واحدا.
لاتختلف ظاهرة الأيمو التي ظهرت في المجتمع العراقي هذه الأيام عن ظاهرة البريكية في ثمانينيات القرن الماضي، لكن علاج هذه الظاهرة لم يكن بنفس الطريقة التي أستخدمها سمير الشيخلي، من خلال زج الشباب بالسجون وحلاقة شعرهم أو تمزيق ملابسهم، بل أصبح من يتبنى ثقافة الأيمو مهددا ً بالقتل، إذ تشير الأخبار الواردة بأن العشرات من الشباب قد قتلوا بدعوة تبنيهم ثقافة الأيمو. فإن دل هذا على شيئ فإنه يدل على أن المجتمع العراقي تطور بشكل كبير سلبيا ً من خلال تبني العنف في طريقة رفضه للظواهر التي يراها سلبية. لكل حقبة من الزمن تظهر ثقافة معينة تعبر عن إحباطها وتهميشها من قبل الدولة والمجتمع من خلال رفض القيم السائدة وتبني قيم غريبة عن المجتمع كوسيلة من وسائل التمرد. فالهيبز والبريك دانس واخيرا ً الأيمو هي ظواهر اجتماعية تتمرد على قيم المجتمع السائدة من خلال تبني أفكار مستورة، لكنها في الأحرى تعبر عن حالة اليأس وفقدان المستقبل، أو حالة الضياع على أقل تقدير، أو قل هي حالة من حالات الإغتراب النفسي. هذه الظواهر ليست خطيرة بمعنى أنها تهدد المجتمع بل يمكن أن تكون مؤشرا ً على أن ثقافة المجتمع السائدة هي ثقافة لاتلبي كل حاجات الشباب ولهذا السبب يتوجه أولئك الشباب لتبني ثقافة أخرى بحثا ً عن التميز.
أن ثقافة الأيمو تعني الأهتمام بكل ماهو عاطفي ومتعلق بالحب، فطريقة الملبس وتصفيفة الشعر هي علامات للتميز لا أكثر ولا أقل، وربما هي مجرد تقليد ولا تتبنى الثقافة العاطفية. حتى في المجتمعات التي تمتلك حرية عالية في التعبير فأن الأيمو هي حالة إحتجاج عاطفية على قسوة المجتمع الرأسمالي والذي يتبنى ثقافة العقل. فالعاطفة هي تمرد على العقل من خلال الموسيقى، فالموسيقى هي جوهر ثقافة الأيمو وليس الملبس. فكل ضربة طبل هي تعبير عن الحب والصراخ لايعنى الغضب بل يعني النشوة العاطفية في ثقافة الأيمو. يريد الأيمو نشر ثقافة الحب والإحساس المرهف بطريقتهم الخاصة في التعبير التي لاتؤذي أحد فيقابلهم المجتمع بثقافة الموت وكأن الأيمو لايواجهون العقل في العراق بل يواجهون الجنون بعينه. هناك ملاحظتان أساسيتان أود التطرق لهما فيما يخص مكافحة تلك الظاهرة.
الأولى هي، لماذا تسلم ملفات تخص ظواهر إجتماعية لوزارة الداخلية من أجل إيجاد الحلول المناسبة لها؟ هل أن وظيفة الشرطة هي المحافظة على النظام وضمان تطبيق القانون أم هي من أجل حفظ القيم الأخلاقية كحارس على العادات والتقاليد؟ لقد حاولت الحكومات السابقة قبل عقود مضت استخدام الشرطة في مكافحة ظواهر اجتماعية في مناسبات عديدة من خلال حلق الرأس وصبغ المينيجوب بالنسبة للبنات بصبغ البوية وأخيرا ً قتل الجراوة والأيمو، لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل. فإن دل هذا على شيئ فإنه يدل على أن دولة كالعراق بسكانه من الملايين وحجم مشاكله الاجتماعية والنفسية يعتمد على القوة في حل مشاكله الاجتماعية والتي ورثها من حقب الدكتاتوريات المتعاقبة. فلاوجود لمراكز أبحاث اجتماعية ونفسية ترصد هكذا ظواهر لتشخص أسبابها وتضع لها الحلول المناسبة، فنحن مازلنا نعتمد على الشرطي ورجل الدين وشيخ العشيرة في حل النزاعات الاجتماعية. أن إستخدام الشرطة في حل المشكل الأجتماعية لاينتمي بحال من الأحوال للنظم الديمقراطية ولا حتى لمفهوم الدولة الحديثة.
أما النقطة الثانية فهي تبني مجموعة من المتشددين بتنفيذ قوانينهم الخاصة ليطبقونها على المجتمع جاعلين من أنفسهم قضاة ومنفذين لأحكام يصدروها بأنفسهم. لايوجد فرق بينهم وبين الإرهابين الذين لايعترفون إلا بشريعتهم الخاصة. أن قتل أي فرد، تحت أي ذريعة، كحماية المجتمع أوالحفاظ على العادات والتقاليد ماهو إلا إنتهاك لروح القانون الذي أتفق المجتمع على تطبيقه وتبرير ذلك سيفتح بالتأكيد بابا ً واسعا ً لتبرير القتل وجعله طريقة مشروعة لحل الخلافات والإنتقام ممن يخالفنا بالرأي والعقيدة والعادات والتقاليد. إن إحترام القانون سمة من سمات التحضر للشعوب المتطورة التي تحترم نفسها وتحرص على أن يكون القانون هو السيد.
إذن، ثقافة الأيمو تفضح ثقافة المجتمع التي لاتقبل بالإختلاف والتنوع ولاتعترف بالآخر، بل تقصيه وتلغيه ماديا ً ومعنويا ً. أليست هذه فضيحة أخلاقية! بالخصوص عندما لايكون الحل إلا بالتصفية الجسدية على الظن والشبهة. ومن جهة أخرى هي فضيحة لمجتمع بعيد كل البعد عن القيم الديمقراطية التي تتيح للناس حرية التعبير بأي شكل من الأشكال مالم تتعارض مع القانون، وتتيح للفرد حرية التنقل وطريقة الملبس مالم يخالف القانون. نعم، لايوجد فرق هنا بين الإرهابيين الذين يقتلون الأبرياء وبين من يدعون الفضيلة بقتلهم شباب هم مختلفون بالمظهر عن بقية الناس. أما الحكومة فهي المسؤول الأساس بالحفاظ على أرواح المواطنين ولايجب عليها أن تغطي على فشلها باصطياد الإرهابيين باصطياد أصحاب الجنز وتصفيفات الشعر المختلفة. أن مسؤولية الدولة هي حماية الفرد وتوفير الحرية السلبية له وليس سلبها من خلال التضييق عليه بحجة الحفاظ على الأخلاق. إنها مسؤولية الجميع في رفض لغة القتل التي يتبناها المجتمع بالدفاع عن قيميه وعاداته وتقاليده. أما القتل فهو دليل ضعف وإنهيار وفراغ كبير يسيطر على المجتمع والثقافة السائدة فيه، أليست هذه فضيحة أخلاقية!!