لايختلف اثنان في أن الفساد إذا تفشى في جسد أية دولة يؤدي حتما إلى إضعافها وشلها وإضاعة أموالها ووقف نموها وحرمانها من العلم والأمن والاستقرار، ويهدر مواهب أبنائها وخبراتهم، ويجعل هجرة أهلها عنها الأملَ المنشود.
وأول مظاهر هذا الفساد عدمُ اعتماد الكفاءة والخبرة والنزاهة في مليء الوظائف الهامة الحيوية، وبالأخص ما يتعلق منها بالمال والأمن والثقافة والتعليم.
ولا يختلف اثنان أيضا في أن دولة المحاصصة الحالية تُصنف ضمن أوائل الدول الفاشلة، بسبب ما فيها من فساد بمعدلات عالية وأكثر من دول فاشلة أخرى عديدة.
ولوقف انتشار هذا السرطان، وانتشال دولتنا من مأزقها الخانق، لابد من توفير البيئة الملائمة. ولا يمكن إيجاد هذه البيئة إلا بسلطة جديدة غير طائفية، وحازمة وراغبة في التغيير وعازمة عليه.
وليس من باب العبث أن تعمد أغلب دساتير الشعوب التي تحترم نفسها إلى تحديد فترة الرئاسة الفاعلة، سواء كانت رئاسة جمهورية أو وزارة، بدورتين اثنتين، وذلك تخوفا من طبيعة البشر الغالبة في أكثر الحالات.
فأي حاكم يطول مكثه في السلطة أكثر من دورتين لابد أن يصيبه الترهل والخمول، ولابد أن تنشأ حوله طبقة من الطفيليين المتمرسين في مداهنة الرئيس ونفاقه وخداعه، واستغلال غطائه وحمايته لتحقيق أقصى ما يمكنها من منافع ومصالح، على حساب مصالح الوطن، ومصالح الحاكم نفسه.
كما أن طول بقاء الحاكم، أكثر من دورتين، لابد أن يصيبه بالغرور، لكثرة ما يُسمعه المنافقون العارفون بعيوبه والمستفيدون منها، فلا يعود قادرا على رؤية ما فيه وما في أعوانه من نواقص وعيوب، ثم بعد ذلك تدب في شرايينه جرثومة الاستبداد، فيصبح طاغية لا يتحمل رأيا مخالفا من أحد، ولا يقبل، ولو بعضا من العتاب، ناهيك عن الحساب والعقاب.
ونظرة فاحصة إلى الدولة التي يديرها السيد نوري المالكي، تؤكد هذه المخاوف. فكم من العراقيين، شعر، حقيقية ًوواقعا، بدفء حنانه الأبوي ومودته الصادقة؟ وكم منهم يؤمن بأن السيد المالكي رئيسٌ لجميع العراقيين؟ وكم في حاشيته معاونون ومستشارون من خارج حزب الدعوة، أو من غير طائفة الرئيس، تم اختيارهم على أساس الكفاءة والخبرة والنزاهة والتخصص؟ وماذا بشأن عنجهيته وعدوانيته، حتى مع (إخوته) في الائتلاف الذي توَّجَهُ ملكا وسلطانا على السلاطين؟ (ليش إحنا ننطيها حتى ياخذها؟).
هل رأى أحدٌ قضاءه (العادل) و (المستقل) وقد اتهم، يوما، واحدا من أعوانه المقربين؟ وهل سمع أحدٌ بأن السيد الرئيس طرد واحدا من أفراد أسرته أو حاشيته المتهمين برشوة أو اختلاس أو اعتداء أو تعذيب أو تزوير شهادة او سطو على مال عام؟
إن حياة العراقيين، على امتداد أيام رئاسته، معارك ضارية بينه وبين شركائه في المحاصصة، وبينه وبين دول الجوار، وتوترات ومفخخات وفضائح واتهامات، لا تتوقف ولا تنتهي.
لقد تعبوا من قصص الفساد، ومن مسلسل العنف، وقلة الأمن والخدمات. وفي وجود المالكي والدائرة المُهيمنة على قلبه وعقله، لم يعد لأحد ٍ من العراقيين أملٌ في عافية ممكنة.
فالحاكم الذي انتشر الفساد، في دورتين من حكمه، وتنامى، بتساهله مع الفاسدين والمفسدين، وبمَنعه العدالة َمن الاقتصاص من بعضهم، لن يكون منطقيا ولا ممكنا وقفُ هذا الفساد ومعاقبة فرسانه ومروجيه بتجديد رئاسته دورة ثالثة.
لكنَّ مجيءَ رئيس جديد عادل وعاقل ونزيه ومستقل عن الأحزاب وغير طائفي وغير عنصري سيجعل فتح جميع الدفاتر القديمة والتدقيق فيها، بلا خوف من أحد، ولا حياء من حزب ولا من طائفة، أمرا ممكن الحدوث.
ويتساءل المتشائمون. ومن يضمن أن يجيء الخلف أفضل من السلف؟. والجواب أن كل شيء ممكن إذا توفرت لدى الناخب العراقي المتضرر من هذا الفساد، والمُتحمِل وحده جميعَ عواقبه وأضراره الفادحة، نية ٌ صادقة وإرادة حازمة وعزم أكيد على إنقاذ وطنه وأهله من هذا التخبط والعشوائية والحزبية والطائفية، وإذا حكمَّ عقله وضميره، وصار قادرا على الاختيار الصحيح.
وهنا لابد من التأكيد على أن هذا الجيل من السياسيين، بكل زعاماته وأحزابه وتياراته وتشكيلاته وتعقيداته، شاخ وترهل وتلوث، ولم يعد صالحا للمرحلة القادمة من تاريخ الشعب العراقي، خصوصا في أجواء الحراك الثوري الديمقراطي الذي يجتاح المنطقة، ولابد من إفساح المجال لجيل جديد من القيادات، وخاصة من أوساط الشباب المتحضر والمتنور لكي يتسلم الراية والقرار.
ولاشك في أن هذا الشعب الغني بأبنائه وقدراتهم وكفاءاتهم قادرعلى إنجاب زعيم واحد وطني شريف أمين وشجاع كفوء نزيه، ومُبرء من جرثومة الغرور والعنجهية والاستبداد، لكي يقود هذا الوطن إلى شاطيء الأمان، ويُسكت المفخخات ويمنع المخدرات ويوقف المشاكسات والمناكفات والمحاصصات.
هذا وحده الأمل الوحيد الباقي لاستعادة كرامة الدولة وانتشالها مما وصلت إليه من تمزق وتشرذم وهوان.
فحين يرفع الرئيس القادم حمايته عن الملفات القديمة والجديدة كلها، ويسمح للقضاء العادل المستقل بالنظر في أي شكوى من أي مواطن ضد أي وزير أو غفير، دون محاباة لحزب ولا لزعيم، ليس لمعاقبة المسيئين السابقين وحسب، بل لردع غيرهم ممن قد يعاودون الظهور في الحكومات القادمة، سيدرك الجميع أن موكب الربيع العراقي الحقيقي قد انطلق، واشرقت معه الحياة والعدالة والكرامة والحرية والسلام.
تُرى مَن من العراقيين يريد أن يظل الوطن، في أربع سنوات جديدة، غارقا في الفساد والعشوائية والارتجالية والحزبية والطائفية والتحاور بالمفخخات والاتهامات، وخراب البيوت؟
إن الدورة الثالثة قادمة، فلا تجعلوها موعدا لولادة (القائد الضرورة) من جديد. فهل تريدون له أن يعود؟