نعم، الماركسية غريبة، ماذا، إذن عن الديمقراطية والبرلمان والفيدرالية؟

رئيس حزب الدعوة الإسلامية السيد المالكي أن لم يبتعد كثيرا عن الحقيقة عندما وصف الماركسية بأنها من quot;الأفكار الغريبةquot;، وهو يعني، على الأرجح، غريبة عن الفكر

الإسلامي، أو عن المجتمع العراقي. فالماركسية ولدت في الغرب، ثم وصلت لاحقا إلى العراق. لكن، هل أن الماركسية وحدها هي الغريبة؟ ماذا عن: الديمقراطية، البرلمان، الفيدرالية، حتى لا نذكر إلا هذه المفردات؟ هذه مفردات لا وجود لها في كل معاجم اللغة العربية، وليس لها ذكر في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، ولا في الفقه الشيعي، ولا في كتب التراث، الأمهات منها والأدنى مرتبة. ولأنها كذلك، فأن هذه المفردات لم تستوعبها حتى اللغة العربية، فأبقتها كما هي، أي كما وردت في الأصل، حتى دون أن تجد لها ترجمة. ولعل المفردات التي نكررها نحن العراقيون عموما منذ الأيام الأولى التي تلت سقوط الديكتاتورية، ويكررها هذه الأيام عموم السياسيين العراقيين كالبسملة، والسيد المالكي واحد منهم، بل في مقدمتهم بحكم منصبه الرسمي، وبطريقة تكاد أن تكون تقديسية، هي (الديمقراطية) و (البرلمان) و (الفيدرالية). ومثلما نعرف أن DEMOCRACY و RLEMENT PA و FEDERALISME تستخدم، كما ذكرنا توا، في نصها الأصلي، ونلفظها نحن العراقيون كما يلفظها مبتدعوها الأصليون. هذه مفردات غريبة، كمفردة (الماركسية) بالتمام والكمال، وهي ترمز وتحمل دلالات فكرية نظرية وتطبيقية، ثقافية، فكرية، أحتماعية شرعت تتدخل، ليس في الحياة العامة فحسب، وإنما في تفاصيل الحياة اليومية للناس. ومثلما أن الماركسية غريبة، وماركس ليس عراقيا أو مسلما أو شرقيا، فأن الديمقراطية والبرلمان والفيدرالية هي أيضا غريبة، وأبائها ليسوا عراقيين ولا مسلمين، ولا شرقيين، وإنما هم: أليكسي توفيل، توماس جيفرسون وتوماس هوبس ودافيد هيوم وديكارت وسبينوزا وفرنسين بيكون وجان جاك روسو وديدرو وفولتير ومنتسكيو... الخ.
ومثلما أن الماركسية شكلت (تحديا)، وشنت حروبا ضارية ل(تهديمها) داخل العراق وفي مناطق أخرى في العالمين العربي والإسلامي، لأنها من (الأفكار الغريبة)، فأن الديمقراطية، هي أيضا، شكلت وما تزال (تحديا)، وشنت وما تزال تشن حروبا ضارية ل(تهديمها)، باستخدام الذريعة إياها، أي لأنها من quot;الأفكار الغريبةquot;. وأخر حرب دامية ضد الديمقراطية هي تلك التي شنها وما يزال يشنها حتى اللحظة داخل العراق تنظيم القاعدة. وفي كل خطبه وتصريحاته، وخصوصا في رسالته الشهيرة التي نشرتها وسائل الإعلام بتاريخ 12/2/2004 فأن الزرقاوي تحدث عن الديمقراطية في العراق باعتبارها كفر صراح يستحق، شرعا، من يدافع عنها القتل.

العلمانية ليست تنظيما سياسيا حتى يتم تهديمه
إما في ما يخص (العلمانية) التي وردت على لسان السيد رئيس حزب الدعوة مرادفة للإلحاد وقرينة به، وقال أن حزبه (هدمها)، فقد كنت أتمنى أن يقول كلاما كهذا قائد سياسي يبحث عن تحقيق مكاسب سياسية عابرة والحصول، بأي ثمن، على مزيد من المؤيدين، وليس رجل فكر يتحدث في مناسبة فكرية مهمة، كمناسبة استشهاد منظر إسلامي بارز هو، السيد الصدر، خصوصا وقد ذكر في كلمته نفسها quot; أقلام العلماء والباحثين والمفكرين.quot; كلام رئيس حزب الدعوة عن العلمانية يبدو مشوشا، حقا، ولا ينسجم مع ما يقوله quot;العلماء والباحثون والمفكرونquot;، ويفتقر إلى رصانة أكاديمية يفترض أن يتحصن بها مثقف حائز على درجة الماجستير مثل السيد المالكي، بل أن كلامه يؤشر إلى محنة ثقافية حقيقية، عنوانها تبسيط الأمور، وإطلاق الكلم على عواهنها، وتفسير القضايا الفكرية من قبل النخب الثقافية وقيادات البلاد مثلما يفعل رجل الشارع البسيط،.
كلام الأستاذ المالكي يثير أسئلة مهمة جدا، أبرزها: ما هي العلمانية؟ وهل عرف العراق العلمانية؟ وهل أن العلمانية تعني، أصلا، الإلحاد؟
يعرف حتى طلاب الصفوف الأولى في كليات العلوم السياسية أن (العلمانية) ليست جمعية سرية أو تنظيما سياسيا يلقى القبض على قادته وكوادره وتنتزع منهم الاعترافات فيتم (تهديم) التنظيم، وينتهي الأمر. العلمانية هي مفهوم لإدارة الحكم، تمتد جذوره إلى التنظيرات الفلسفية الإغريقية والرومانية القديمة، ثم ما حدث لاحقا في عصر التنوير في أوربا، مرورا بالثورتين الفرنسية والأميركية، وكومونة باريس عام 1871 وثورات الربيع الأوربي منذ عام 1884، وما عاشته أوربا يعذ ذلك من أحداث. وإذا تتبعنا الأصول الإيتمولوجية لمفردة العلمانية منذ نصها اللاتيني LAICUS، وحاليا نصها الفرنسي LAICITE، وكذلك نصها الإنكليزي SECULARISM، ومن ثم التطورات اللاحقة التي طرأت عليها، سنجد أن العلمانية لا تعني الإلحاد، أو تحقير الدين، أو حتى الازدراء به، أو منع المؤمنين من ممارسة طقوسهم الدينية. هذا أمر لا نظنه يرد، لا في الأصل الإغريقي لمفهوم العلمانية، ولا في كتابات لوك، وتوماس بايل، وديدرو، وفولتير، وتوماس جيفرسون، ولا في الدستور الأميركي عام 1788 ولا في قانون كومونة باريس عام 1871، ولا في أفكار جل فيري، ولا في قاموس البيداغوجيا لفردناند بيسون، ولا في قانون عام 1905 في فرنسا. والواحد منا لا يحتاج أن يقيم ويسكن في دول الغرب (العلمانية) حتى يعرف كم هي كثيرة أعداد الكنائس والمساجد ومختلف دور العبادة التي تغص بمن يؤمها من المؤمنين، دون أن يمنعهم أي قانون علماني. ولعل أفضل من يتحدث في هذا الشأن هم قادة حزب الدعوة وغيره من الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق من الذين قضوا سنوات طويلة في بلدان الغرب العلمانية. وليت هولاء الأساتذة يقولون للشعب العراقي إن كانت السلطات الرسمية في تلك البلدان العلمانية منعت أحدهم من الذهاب إلى مسجد أو حسينية، أو أجبرتهم على التخلي عن إيمانهم ومعتقداتهم الدينية، أو أن يهجر بعضهم أزيائهم الدينية. وإذا كان رئيس حزب الدعوة يعني بالعلمانية أنماط الأخلاق والسلوكيات السائدة الآن في الغرب، خصوصا في ما يتعلق بالعلاقات الجنسية، فهذه ليست لها علاقة بالعلمانية بقدر ما لها علاقة بالتطورات والتغيرات الاجتماعية التي تعيشها هذه البلدان، فقد ظلت المرأة، على سبيل المثال، محرومة من التصويت في الانتخابات العامة إلى وقت قريب في بلدان أوربية، وظل الطلاق مذموما ومعيبا، خصوصا في الأوساط الارستقراطية والبرجوازية، وظل الإجهاض محرما، وظل محرما اجتماعيا العيش المشترك بين رجل وامرأة دون عقد زواج شرعي ورسمي، رغم علمانية هذه الأنظمة.

هل عرف العراق العلمانية؟
وفي ما يخص العراق فأن العلمانية، كأسلوب في الحكم وإدارة البلاد كما في أوربا، لم تعرف تطبيقا لها منذ قيام الدولة العراقية الحديثة (لأسباب عديدة لا تتسع لها هذه السطور)، اللهم إلا إذا كان الأستاذ رئيس حزب الدعوة يعني بالعلمانية كل ما لا يتطابق ويتفق مع ما يقوله حزب الدعوة، أو أن العلمانية تعني أن لا يقحم الدين ورجال الدين بالشأن السياسي، أو أن تفرض أحزاب دينية سياسية لأرائها ومواقفها الخاصة بها على نشاطات المجتمع، وتسيير الحياة الاجتماعية والنشاطات الثقافية كما تريد هذه الأحزاب. وإذا كان هذا هو تفسير السيد المالكي للعلمانية، فهو على حق، لكن في هذه الحال علينا أن نرمي في مياه البحر جميع الأحزاب السياسية التي ظهرت إلى الوجود أثر قيام الدولة العراقية الحديثة، وجميع الثورات والانتفاضات التي عرفها العراق خلال هذه الفترة، ونمزق جميع الصحف التي ظهرت، ونلعن ونكفر الجواهري ومحمد رضا الشبيبي وعلي الشرقي وأل الخليلي وعلي الوردي وعبد الرزاق الحسني وعبد الله العزاوي، ومصطفى جواد، وعبد الجبار عبد الله وغائب طعمة فرمان والسياب والحاج زاير الدويج، وحسين قسام النجفي، ومظفر النواب، ورواد السينما العراقية والمسرح، وجواد سليم والرحال وفائق حسن وحضيري ابو عزيز وجبار عكار وجمولي وحسن فيوري، ونتنكر لقانون الإصلاح الزراعي، ونشطب على جميع النقابات والإضرابات العمالية، ونلغي الجامعات العراقية، ونلغي العادات والسنن والتقاليد العشائرية. باختصار، علينا أن نلغي تاريخ العراق الحديث منذ بداية القرن الماضي وحتى عام 2003، دولة وحكومات ونشاطات ثقافية وسياسية واجتماعية، لأن هذا التاريخ كله (علماني). بل علينا أن نلغي شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري وأبي حيان التوحيدي وأبن رشد وأبي نؤاس وأبي العبر الهاشمي، ونمزق ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والكثير الكثير من أمهات التراث. بل علينا أن نمزق البيان الشهير الذي أصدره مكتب سماحة المرجع السيد علي السيستاني، عشية الانتخابات الأخيرة، ونص على quot;أن يختار الناخب من القوائم المشاركةquot; ليس ما هي أكثرها تدينا، وإنما quot;ما هي أفضلها وأحرصها على مصالح العراق.raquo; وأبعد من ذلك علينا أن نمزق الدستور العراقي الجديد نفسه.

ماذا يفعل حزب الدعوة بالفقرة (ب) من المادة الثانية؟
نصت الفقرة (ب) من المادة الثانية في الدستور العراقي الجديد على ما يلي: ( لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية)؟ والمبادئ الديمقراطية لا تعني عملية إحصائية تعرف منها الأكثرية والأقلية، ولا هي الانتخابات وحدها مهما كانت نزيهة. المبادئ الديمقراطية تتضمن، وتضمن وتكفل مشاركة المواطنين جميعا في اتخاذ القرارات، والمساواة الكاملة بينهم بغض النظر عن كل ما يميزهم، والانتخابات العامة، والحرية الاقتصادية، وضمان حقوق الإنسان، والقبول بما تقدمه صناديق الانتخابات، والتعددية الحزبية، وحكم القانون، والشفافية، والتسامح السياسي وضمان الحريات العامة والخاصة، بما في ذلك أن يكون quot;لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية quot;، وأن quot;تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والدينيquot;، وأن quot;تكفل الدولة لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدةquot;، كما نصت فقرات من الدستور الجديد
ومثلما نرى فأن روح القوانين التي نص عليها الدستور العراقي الجديد تتعارض، بل تلغي نهائيا ذهنية (هدم) الأفكار السائدة سابقا، وتدشن مرحلة جديدة تتعايش فيها جميع الأفكار، ويترك للناس حرية الاختيار، وفقا للمبادئ الديمقراطية التي أشار لها الدستور الذي وافق قبله حزب الدعوة.
والسؤال هنا: هل وافق حزب الدعوة على قبول الديمقراطية، كأسلوب في إدارة الحكم وإدارة الخلافات الفكرية والسياسية، وكفلسفة لإدارة المجتمع، مرغما، أم عن قناعة راسخة لا يحيد عنها، وكيف سيتعامل مع استحقاقات الديمقراطية، وكيف يرد على التحدي الديمقراطي؟
هاذا هو التحدي الأكبر الذي يواجهه حزب الدعوة، بل جميع الأحزاب الإسلامية وكل الجهات الإسلامية التي وافقت على الدستور وقبلت به، سواء كانت في الحكم أو في المعارضة.
هل يواجه حزب الدعوة هذه التحديات على طريقة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو الوهابية، أو الأوردغانية، أو الغنوشية، أو الطالبانية/ الزرقاوية، أم أنه سيجيب عليها بطريقة (عراقية) خلاقة تستلهم كل إرث مدرسة العراق الإسلامية؟

الأسئلة الكبرى تحتاج إلى أجوبة مثلها
الحق، إن هذا السؤال لا يبدو أنه غائب عن تفكير حزب الدعوة الإسلامية، لكن الحزب يتعامل مع هذا السؤال، كما لو كان (محنة) أو (ورطة)، لا يعرف كيف يخرج منها. فحزب الدعوة ما يزال يفتقر للشجاعة الضرورية لمواجهته، ولهذا فأن الإجابة عليه تحدث، حتى الآن بطرق، هي في آن واحد، خجولة، حذرة، مترددة، خائفة، متناقضة، وهو أمر تكشفه متابعة الوقائع التي تجري أمامنا. ففي وقت يتحدث فيه رئيس الحزب بمباهاة عن (تهديم الأفكار الغريبة الماركسية العلمانية)، فأن الحزب يرسل ممثله الأستاذ ياسين مجيد للمشاركة في حفل أقامه الحزب الشيوعي العراقي بمناسبة تأسيسه، وكانت وزارة المالكي الأولى قد ضمت وزيرا شيوعيا. وفي وقت يتحدث فيه رئيس الحزب عن ذهنية (الهدم) للمخالفين لرأيه، فأنه يخوض الانتخابات تحت راية قائمة أسمها (دولة القانون). وفي وقت يتحدث فيه السيد المالكي عن التحديات (العلمانية)، فأنه يستقبل ويكرم (وخيرا فعل) عائلة قائدة ثورة 14 تموز الزعيم قاسم، بعد أن كان الحزب لا يطيق ذكر أسم هذه الثورة والانجازات التي حققتها، خصوصا قانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال المدنية. وفي وقت يرفض فيه أعضاء في حزب الدعوة أن يمدوا أياديهم لمصافحة النساء، لأن ذلك حرام، فأن حزب الدعوة يقبل بنصوص دستورية تساوي بين الذكر والأنثى، ويضم في صفوفه الآن الكثير من النساء اللواتي يتمتعن بالشجاعة الأدبية، ويفتخر بنشاطهن السياسي، وكفاءتهن العالية.
ولكي نلخص كل ما قلناه، فأننا نطرح السؤال التالي: ما هي الدولة العراقية، وما هو المجتمع العراقي اللذين يريد حزب الدعوة الإسلامية بنائهما؟
[email protected]