في كلمته التي ألقاها، قبل أيام، في حفل تأبين المفكر محمد باقر الصدر، قال رئيس حزب الدعوة الإسلامية، الأستاذ نوري المالكي: laquo;... إن الشهيد الصدر مدرسة ...نشأنا وتسلحنا بها يوم كانت التحديات الغريبة الإلحادية والماركسية والعلمانية فهدمناها .quot;
ما قاله السيد رئيس حزب الدعوة بأن الصدر quot;مدرسة للفكرquot; كلام صحيح جدا، فالشهيد الصدر مدرسة، أو بالأحرى واحدة من مدارس فكرية عديدة عرفها العراق عبر تاريخه القديم والحديث. وما ذكره السيد المالكي بأنه ورفاقه في حزب الدعوة quot; نشأوا وتسلحوا في تلك المدرسةquot; صحيح، أيضا، فهم ترعرعوا داخل تلك المدرسة، ونهلوا من دروسها. وما قاله السيد المالكي بأنهم كانوا يجدون في الماركسية والعلمانية تحديا لهم هو، من وجهة نظرهم، كأصحاب فكر مغاير، صحيح، كذلك. ولهذا لن أتوقف كثيرا عند هذه الأقوال لأنها، كما ذكرت توا، صحيحة سأتوقف فقط عن مسألتين:
الأولى، سياسية تتعلق بمفردة (هدم) التي استخدمها السيد المالكي وهي، عندي، فأل شؤم لأنها تعيد لأذهان العراقيين، من جديد، سياسة احتكار الحق والحقيقة، واستخدام العنف كوسيلة لتهميش (الآخر) المختلف والتشهير به وإلغاءه، فقط لأنه مختلف، وهذه سياسة بدأ حزب الدعوة نفسه يدفع ثمنها، كما سنرى في السطور التالية.
الثانية، فكرية تتعلق بمفردة(غريبة)، أي هل أن الماركسية وحدها هي الغريبة، وكذلك تفسير العلمانية، وهل عرف العراق تطبيقا لها، وهل عرف المجتمع العراقي تحديا إلحاديا؟

أما من quot;إنجازquot; آخر غير هذا يتباهى به حزب الدعوة؟
الذي يعرفه العراقيون، والذي سجله تاريخ العراق الحديث، وثبتته دراسات أكاديمية كثيرة، أن الأفكار الماركسية والقوى السياسية الماركسية في العراق لم (يهدمها) حزب الدعوة الإسلامية، ولا أي جهة دينية للأسباب التالية:
أولا: إن الماركسية في العراق (وإذا قلنا الماركسية قلنا الحزب الشيوعي العراقي) لم تضع أبدا نصب عيونها، ومنذ الأيام الأولى لظهورها، الإسلام، سواء كعقيدة أو كممارسة وطقوس، (عدوا) يجب محاربته والقضاء عليه. أمر كهذا لم يرد قط، لا في الأدبيات الماركسية العراقية، ولا في شعارات وممارسات القوى الماركسية العراقية، أفرادا وتنظيمات، لسبب بسيط هو، أنها لو فعلت ذلك لانتحرت. وفي ما يتعلق بالحزب الشيوعي العراقي (سواء اتفقنا معه أو اختلفنا)، فأن الأعداء الحقيقيين الذين خاض ضدهم معاركه الكبرى هم، الاستعمار، أي تحرير العراق من السيطرة الأجنبية، والقضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولأن ما من جهة، داخل العراق تملك حق احتكار الإسلام لنفسها، فأن العراقيين الماركسيين، أيضا، من حقهم أن يتحدثوا عن الإسلام، وقد فعلوا، لكنهم تحدثوا عن (أسلامين)، إسلام الضعفاء والمحرومين، والإسلام الذي اختطفه أهل الثروات وفسروه على هواهم. وما تزال الذاكرة العراقية تحتفظ بعشرات القصائد الكلاسيكية والمكتوبة بالدارجة العراقية التي أصبحت جزءا من التراث الأدبي السياسي، والتي تمجد الرسول الكريم باعتباره (رسول الكادحين)، كهذه القصيدة التي شاعت في نهاية خمسينيات القرن الماضي، و يقول أحد أبياتها: (حاشاك أن ترضى وأنت محمد أن تستغل جهود ألف يد يد.) وفي قصيدة شعبية كان أنصار الحزب الشيوعي العراقي يرددونها أثناء مواكبهم الحسينية في العهد الملكي، يبث مؤلفها شكواه للإمام الحسين، ويحدثه عن الشركات الأجنبية التي كانت تنهب ثروة العراق: (يا حسين يا حسين كليquot; قل ليquot; النفط وين ؟ ) وفي قصيدة تنبؤية، كأنما كتبت لعراق هذه الأيام، يخاطب يها الشاعر العراقي مظفر النواب الإمام علي، قائلا: أعليا، لو جئت اليوم ... لحاربك الداعون إليك وسموك شيوعيا.)
وبفضل هذا الإلحاح على تحقيق العدالة الاجتماعية وتحرير الفقراء، وليس بفضل محاربة الدين والتدين كما يرى الأستاذ المالكي، شاعت وراجت رواجا كبيرا الأفكار الماركسية في العراق، ليس عند النخب فحسب، وإنما في أعماق الريف العراقي ولدى الطبقات الشعبية الأكثر بؤسا، أيضا. وهذه حقيقة لم تغب حتى عن رجال الدين في العراق، بل لم تغب عن الشهيد الصدر نفسه. يقول خطيب جامع براثا الشيخ جلال الدين الصغير، في خطبة أخيرة له تحدث فيها عن سجايا الشهيد الصدر، أن الشهيد الصدر عندما يتحدث عن ماركس فأنه quot;يتحدث عنه كرجل ذكي يحترمه ويقدر فيه واقعه الإنساني.quot; (نقلا عن موقع الشيخ جلال الدين الصغير).
وبعد ثورة 14 تموز 1958، فأن الحرب الحقيقية الكبرى التي شنتها القوى الماركسية العراقية لم تكن ضد الدين ولا ضد رجاله، بل ضد كبار ملاك الأراضي الذين وقفوا ضد تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي، وكبار الجنرالات في المؤسسة العسكرية، وضد الأجنحة الأكثر تطرفا بين القوى العروبوية التي لم يرق لها أن تستمر ثورة تموز في تحقيق المزيد من الإصلاحات الاجتماعية. ولإيجاد مزيد من الحلفاء، رفعت تلك القوى شعار (يا أعداء الشيوعية اتحدوا)، ورأى ذاك الحلف أن كل الأسلحة (مشروعة) لتحقيق أهدافه، بما في ذلك استخدام الدين، وترويج واقعة تقول إن الشيوعيين العراقيين حرقوا القرآن الكريم. ويذكر الباحث والإعلامي حسن العلوي الذي كان ناشطا وقتذاك ضمن تلك التجمعات أن فرية حرق القرآن لا وجود لها أطلاقا، إنما هي أسلوب لجأ إليه أعداء الحزب، للتشهير به.
ثانيا: إن حزب الدعوة الإسلامية ظهر، نسبيا، في وقت متأخر، مقارنة بظهور وشيوع الأفكار الماركسية في العراق. فالمعروف أن حزب الدعوة تكون، على الأرجح، عام 1957. وكانت الأفكار والتنظيمات الماركسية في العراق قد شاعت كثيرا في العراق قبل ذاك التاريخ. وبعد سنة على تأسيس حزب الدعوة، أي بعد نجاح ثورة 14 تموز 1958 كانت القوى الماركسية، تحديدا الحزب الشيوعي، قد وصلت ذروة النشاط والشعبية. وحتى بعد ما حصل في 08 شباط 1963 من تنكيل غير مسبوق بالحزب الشيوعي وكل من يعتنق الأفكار الماركسية، إلا أن الحزب سرعان ما استعاد نشاطه وشعبيته، وانعكس نشاطه الجديد في نتائج انتخابات الطلبة في نهاية السبعينيات التي فاز بها أنصار الحزب الشيوعي وألغتها الحكومة بعد ذلك، مثلما انعكس في الحفل التأبيني الذي أقامه الحزب الوطني الديمقراطي في قاعة الخلد تأبينا لزعيم الحزب كامل الجادرجي، ثم في النشاط المسلح الذي نفذنه في أهوار العراق فصائل شيوعية. وبسبب نشاط الحزب وشعبيته أضطر حزب البعث لإقامة جبهة سياسية معه عام 1973 لغرض ترويضه واحتوائه والقضاء عليه. وبعد عام 1978 وانفراط عقد الجبهة، شنت حكومة البعث، أو بالأحرى واصلت شنها حربا ضد القوى الماركسية، وأولها الحزب الشيوعي، وظل صدام يكرر في كل مناسبة أن الحزب الشيوعي كان يمثل له التحدي الأكبر فهدمه وقضى عليه (راجع، مثلا، كتاب فؤاد مطر عن صدام حسين).
بالإضافة لذلك، فأن ما نعرفه هو، أن حزب الدعوة كان، منذ نشأته حزبا مناضلا، وما عرفه العراقيون جلادا في أقبية قصر النهاية، ولا حارسا لزنازين الأمن العامة، وداخل سجون الحلة والكوت وبعقوبة، ونقرة السلمان. وهكذا، فأن الذين يحق لهم أن يتباهوا ب(تهديم) الأفكار الماركسية والأحزاب السياسية العراقية التي تسترشد بها هم، بهجت العطية ، وعبد الجبار أيوب ، ونائل عيس ، وعبد الله النعساني، وانقلابيو 8 شباط، وناظم كزار، وصدام حسين، ليس عن طريق الحجة بالحجة والبينة بأختها، وإنما عن طريق استصدار صكوك البراءة، وقلع الأظافر، ومحاكمة المتهمين بطريقة قاراقوشية، وهتك الأعراض، والنفي خارج العراق، وإسقاط الجنسية العراقية، وحشر السجناء داخل قطار الموت، وإذابتهم في أحواض التيزاب، وقتلهم صبرا.
وما كنت أتمنى، صادقا ما كنت أتمنى (أقول صادقا لأني كنت وما زلت أتوسم في حزب الدعوة قدرة فكرية على استنباط حلول مستقبلية ديمقراطية خلاقة تتلاءم مع التطورات العاصفة التي يشهدها العراق منذ عشر سنوات)، أن رئيس حزب مناضل عريق، كحزب الدعوة الإسلامية، خصوصا وهو يتحدث في مناسبة تأبين شهيد فكر عراقي مرموق، أن يضع نفسه وحزبه الذي يقوده، سواء بوعي أو بدونه، في خانة واحدة مع هولاء الظلمة و قامعي الفكر، ويتفاخر بأفعالهم. هذا (إنجاز) لا يليق بحزب مناضل أن يتباهى به.

مغالطة تاريخية صارخة
إما في ما يخص حديث حزب رئيس الدعوة عن (الإلحاد) الذي يقول أن حزبه تصدى له، فهو يشبه حديث من يقول أن نوادي العراة كانت منتشرة على شواطئ دجلة وشكلت تحديا للقيم والأخلاق العراقية أو أن الحركة السريالية، مثلا، شكلت تحديا واجهه البدو في صحراء العراق. وإلا، عن أي (إلحاد) يتحدث رئيس حزب الدعوة ؟ هل عرف العراق حركة أو حزبا، أو كتابا، أو بيانا، أو دعوة، أو تظاهرة، أو تجمعا يدعو للإلحاد ؟ هل عرفت محاكم العراق قضية واحدة وقف أصحابها، أفراد أو جماعات، أمام القضاء بتهمة ترويج الإلحاد ؟ الحديث عن الإلحاد في العراق والقول إنه كان يمثل تحديا، يفتقر، من ناحية أكاديمية علمية، للمصداقية ويمثل، ببساطة، فضيحة فكرية تاريخية، على قائلها أن يعتذر للمؤرخين العراقيين. أما إذا كانت الاتهامات تساق هكذا، دون تمحيص، وبهدف التأليب، وتحريض الناس ضد جهة بعينها، ففي هذه الحال يصبح من حق من يشاء أن يتحدث ما شاء عن من يشاء، وهنا أتمنى أن يقرأ الأستاذ المالكي ما يقال هذه الأيام بحقه وحزب الدعوة، وننقل شذرات منه في السطور التالية، وأن يقول الأستاذ المالكي للعراقيين إن كانت هذه الاتهامات صحيحة أو لا.

quot;المالكي يدخل الروضة الكاظمية بحذائهquot;!
في 23/4/2012 نشر موقع (براثا نيوز)، وهو موقع شيعي معروف تابع، أو مقرب من أوساط سياسية شيعية نافذة، مقالا عنوانه (سري للغاية. عقيدة حزب الدعوة)، قال فيه كاتبه ما لم تقله أي جهة بحق المالكي وحزب الدعوة وعقيدته. يورد الكاتب أمثلة كثيرة يدلل من خلالها أن عقيدة هذا الحزب تطعن في الأنبياء والرسل، بما في ذلك النبي محمد، وكذلك الإمام علي وفاطمة الزهراء، ويختتم الكاتب، بعد أن يستعرض أدلة كثيرة، هي عنده دلائل على فساد عقيدة حزب الدعوة، بقوله إن: laquo;... هناك إجماع بين مراجع وعلماء الشيعة في العالم على أن هذه العقيدة لا تمت إلى مذهب أهل البيت بصلةquot;، ثم يستدرك قائلا: quot;قد يعترض علينا البعض ويقول أن المالكي وأعضاء الحزب يزورون المراقد المقدسة... وأقول أن صدام عدو الإسلام زار المراقد، ثم ماذا ؟ ... ثم أن صدام المجرم كان عندما يزور يخلع نعليه والمالكي دخل الروضة الكاظمية بحذائه !! quot; انتهى الاقتباس,
استشهدنا بهذا النص لا لنعرف إن كان صحيحا أولا، وليس للتشفي أو إذكاء الخصومات، أو التحريض، إنما لنؤكد على أن ثقافة (هدم) الأفكار، وذهنية احتكار الحق والحقيقة، ونفي الآخر المختلف، لن توفرا أحدا، إذا ظلتا هما السائدتين. ولن تكون مفاجأة لو أن فردا أو جماعة سيقولون بعد عقود: كانت أفكار وعقيدة حزب الدعوة غريبة وشكلت تحديا لنا فهدمناها بأفكار قائدنا الفلاني، تماما كما قال المالكي، وهو يتحدث عن الماركسية.
نعم، بالتأكيد، ستتكرر هذه الاتهامات والاتهامات المضادة، وستستمر دورة العنف، وسيغرق العراق، من جديد، في بحر من الدم، ما لم نتخلى، مرة واحدة وللأبد، عن ثقافة احتكار الحق والحقيقة ونردد مع الشافعي: quot;رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصوابquot;، وإلا فأننا سنظل نردد قول دعبل الخزاعي:
خليفة مات لم يحزن له أحد- وآخر قام لم يفرح به أحد

[email protected]