بدأ الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الصهيوني في السابع عشر من أبريل الجاري بالتزامن مع يوم الأسير الفلسطيني إضراباً مفتوحاً عن الطعام وصف بالتاريخي لا يزال مستمراً حتى هذه اللحظة وهو آخذ في التصاعد احتجاجاً على الممارسات اللا إنسانية التي يقوم بها الاحتلال ضدهم..
الأسرى الفلسطينيون وهم يجدون أنفسهم مضطرين لهذه الوسيلة القاسية للضغط على سجانيهم وللفت أنظار العالم إلى معاناتهم لا يهدفون من وراء هذا الإضراب إلى إطلاق سراحهم، إنما غدا أقصى أمل لهم هو مجرد تحسين ظروف اعتقالهم بما يليق بآدميتهم..
من بين مطالب هذا الإضراب إنهاء سياسية العزل الانفرادي، وإطلاق المعزولين، والتوقف عن المداهمات الليلية لغرف الأسرى وتعريضهم للتفتيش العاري، والسماح لأهالي الأسرى من قطاع غزة بزيارتهم، إضافةً إلى إنهاء سياسة الاعتقال الإداري وهو الاعتقال الذي يجري دون محاكمات، ووقف الاعتداءات والاقتحامات لغرف وأقسام الأسرى، وتحسين العلاج الطبي للأسرى المرضى، ووقف سياسة التفتيش والإذلال لأهالي أسرى الضفة خلال الزيارات على الحواجز.
تعجز كلماتنا مهما أوتينا من قدرات لغوية عن تصوير حجم المعاناة والظروف القاسية التي يعايشها أسرانا في سجون الاحتلال، فليس من يكتب في فضول أوقاته وهو متكئ على أريكة مريحة كمن تتدفق كلماته من وحي المعاناة والألم الذي يحياه، لذا فإنني سأصمت هذه المرة، وسأترك الكلمة لأحد هؤلاء الأبطال الذين تمضي عليهم السنوات والعقود وهم لا يزالون صابرين محتسبين في غياهب السجون..
صاحبنا هو الأسير حسن سلامة من سكان مدينة خانيونس، محكوم عليه بالسجن ثمانية وأربعون مؤبداً وخمسة وثلاثون عاماً، أي أكثر من ألف ومائة عام، ويقبع في زنازين العزل الانفرادي منذ تسعة أعوام.
منذ تسعة أعوام وهذا البطل يعيش في غرفة ضيقة جداً لا تدخلها أشعة الشمس، ويتعرض لمعاملة سيئة من قبل السجانين، وتقييد ليديه ورجليه بالسلاسل..في ظل هذه الحياة اللا إنسانية تصبح أقصى أمنية الإنسان أن يسمع صوتاً بشرياً أو أن يخط رسالةً تشعره بأنه لا يزال ينتمي إلى عالم الأحياء..
أرسل الأسير القائد حسن سلامة عبر محاميه رسالةً إلى عالمنا العالم الآخر بعد أن صار إرسال مثل هذه الرسائل وسيلته الوحيدة للمحافظة على نفسه..وبعد أن صارت سعادته في هذا العزل هي أن يكتب رسالةً أو تصله من الخارج رسالة

*******
يقول حسن سلامة في رسالته:
تحية وألف سلام ..
الأحبة الكرام ..
يا من تسكنون ذلك العالم الكبير الذي نسمع عنه دون أن نراه ..
مكاني ،، عالم صغير نحيا فيه مرارة الاعتقال والعزل .. في هذا المكان الضيق .. الذي يضيق أكثر وأكثر كم يحلو لنا أن نتذكر ذلك الزمان الذي مضى والذي قد يكون هو الصورة الأجمل التي ما زلنا نحملها في قلوبنا وعقولنا ..
.. كم أتمنى أن يعود ذلك الزمن الجميل يوم كنا صغارا كلنا براءة لا نعرف الكره .. كان احترامنا للكبير شيء مقدس وكأنه آية من القران .. أتذكر عندما كنا نعود من المدارس وتبدأ حملة تفتيش الحقائب على الدفاتر والكتب المرتبة وكنت دائما أكون الأكثر ترتيباً.. كم أتمنى أن أعود إلى بيتي وشارعي ومدينتي .. كل شيء نشتاق إليه أنا لست معزولا فقط بل محروم من أن أعيش مع أي صديق من منطقتي أتحدث معه عن غزة أو خان يونس ..أو ذكريات الطفولة .. شكلي قد كبر ولحيتي شابت لكنني أعيش وكأنني طفل.. أحن وأشتاق لكل شيء ....
أيها الأحبة هم يريدون عزل ذاكرتي .. إخراجي من عالم البشر ووضعي في عالم الأموات لكي بعد سنوات طوال يصلون بأحدنا إلى ذاكرة جديدة ليس لها علاقة بالبشر .. رسالتي هذه هي وسيلتي الوحيدة للمحافظة على نفسي..لحظات سعادتي في هذا العزل هي عندما أكتب رسالة أو تصلني من الخارج رسالة..أجلس كطفل صغير على فراشي وأحشر نفسي في الزاوية وأقرأ رسالة جاءت من عالم الأحياء عالم البشر ،، كيف وصلت ؟؟ بأي طريقة .. لا يهم .. المهم وصلت .. بمجرد استلامي لها أشعر أنني ما زلت أنتمي لكم أشعر بأنني ما زلت حيا أقرأ كل كلمة وكل حرف وكأنني أتناول إكسير حياة يعيدني للحياة وينتشلني من بين الأموات .. هكذا هي رسائلكم وسماع صوتكم .. ..أبحث عن وسائل مساعدة حتى أبقى حياً أتنفس والله ثم والله إنكم الأكسجين الذي أتنفس من خلاله إن وصلني تنفست وانتعشت وإن انقطع عني عدت جثةً بين جثث تتحرك كما في أفلام الأموات التي تتحرك بعوامل معينة لكن لا روح ولا نفس فقط جسد يسير ويمشي... تسع سنوات متواصلة تنقلت فيها بين قبر وقبر أمكث في القبر 23 ساعة وأخرج ساعةً لقبر أوسع قليلا .. لكن ما زلت بفضل الله قوي وأملك إرادة صلبة وكل ما أنا فيه من أجل تحطيم هذه الإرادة باستخدام أحدث ما توصل إليه علم النفس .. أمامي وبجانبي أصدقاء كانوا ما أجملهم فجنوا وأصبحت حالتهم يرثى لها .. وصدقوا ما أنا فيه من قوة وثبات هو بفضل الله .. أبدا ليس لي فيه أي فضل هو وحده من يقف معي .. حتى أنتم من أحبهم شغلتكم همومكم ومشاكلكم على أن تتواصلوا معي ولو لحظات هي عندكم دقائق معدودة كل أسبوع لكنها عندي الحياة بأكملها الدنيا .. التحدي الأكسجين.. أحدكم عندما يمل يذهب لأي مكان أو يزور صديق طفولة يتحدث معه فما بالكم بمن مفروض عليه أن يتحدث مع نفسه ويعيش معها ذكريات يحن إليها .. مسكت قلمي حتى أتحدث معكم ووجدت نفسي كالجائع أو العطشان لأن يتحدث بما يجول في نفسه .. ومشكلتي أنني لا أبكي وأحبس دمعتي لكي تنزف دما في قلبي أصبحت أستمتع بنزف القلب وأشعر أن دموع القلب تعقم جروحي وفي نفس الوقت أتركها تزيد من ألمي .. لأنني لا أريد أن أنسى الآلام لا أريد أن أنسى أوجاعي..أريدها أن تؤلمني كل دقيقة هي بركان كل يوم أريده أن يغلي حتى لا أنسى من أنا ومن هؤلاء .. حتى أشعر باني ما زلت من بني البشر وما زلت من الأحياء ..
كم سيتكلف أحدكم من الوقت إذا تحدث لدقائق معدودة كل أسبوع أو أسبوعين أو كتب رسالة مع محامي أو على البريد ،، وهو يشعر بأنها ستقوي وتعين سجين معزول هي عنده حياة جديدة ..
لو كنت أملك شراء دعمكم لي ولمن مثلي من الأسرى بكل ما أملك والله ما قصرت ..
وهي كلمات نطق بها وجعي من هذا الزمن ..
إلى أصحاب العالم الآخر ... ذلك الذي نسمع به ولا نعيشه ..
أتمنى لكم من كل قلبي التوفيق وسأبقى أحبكم ولو نسيتموني فعزائي أن لي رباً اسمه الكريم لن ينساني ربنا .. إن الله جميل جدا وأنا أعيش وفق هذا الجمال في كل شيء في حياتي حتى في عزلي ورغم همومي ومصاعب الحياة ومصائبها ..
ودمتم بخير
أخوكم حسن سلامه عزل الرملة (أيلون)
***********
هل ستلامس هذه الرسالة النابعة من قلب الألم والقهر قلوباً حيةً في هذا العالم فتلتفت إلى قضية الأسرى العادلة وتبدي تجاهها شيئاً من الاهتمام..
إن هؤلاء الأسرى هم اختبار قاس لنا..وإن إنسانيتنا ذاتها في خطر ما دمنا صامتين أمام هذا الانتهاك الصارخ لأبسط حقوق الإنسان...
والله المستعان..
[email protected]