أمامنا نموذجان لشابين: الأول منقطع عن الحياة معتكف في مسجده أو صومعته يقضي جل وقته في الصلاة وقراءة القرآن والأذكار، يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يخالط المجتمع تجنباً للفتن ومخافة الوقوع في الزلل والمعاصي.
والنموذج الثاني لشاب يؤدي الفرائض ولا يكثر من النوافل ، لكنه ناجح في الحياة، نشيط وفاعل وإيجابي، ينفع المجتمع بأفكاره الإبداعية وبشخصيته العملية، وإن كانت مخالطته للمجتمع تصيبه ببعض الرذاذ، وتوقعه في بعض الزلل والمعاصي قبل أن ينهض من جديد ويواصل أداء رسالته..
أي النموذجين أقرب إلى الصواب وإلى تحقيق غاية الدين؟؟ هل هو النموذج السلبي المنقطع عن الحياة، أم النموذج الإيجابي المخالط للحياة وإن كانت مخالطته تصيبه برذاذها..
ظاهر الأمر أن النموذج الأول هو أكثر تعبداً وأخشى لله وأقرب إلى اليوم الآخر، لكن حقيقة الأمر أنه أبعد عن تحقيق غاية الدين من النموذج الثاني رغم ما قد يعتري الأخير من زلل ووقوع في المعاصي..
سبب ذلك أن رسالة الدين بطبيعتها رسالة اجتماعية لا تتحقق إلا من خلال الإقبال على الحياة ومخالطة الناس والصبر على أذاهم، فالدين ليس علاقةً خاصةً بين الفرد وربه، بل إن كافة ميادين الحياة هي مجال عمل الدين، والقرآن ينوه في مواضع كثيرة إلى الغاية العمرانية لوجود الإنسان على الأرض quot;واستعمركم فيهاquot;..
لذلك فإن الرهبانية لا تتوافق مع طبيعة الدين وإن كان ظاهرها الزهد في الحياة والرغبة فيما عند الله، والقرآن ينبه إلى أن الرهبانية هي انحراف من صنع البشر quot;ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتهاquot;..كان يكفي أن يعتكفوا ويصلوا بالقدر الذي يعطيهم شحنةً روحيةً تعينهم على مواجهة أعباء الحياة، لكن المبالغة في الانقطاع عن الحياة حرفهم عن منهج الله القويم.
إن خوض غمار الحياة مع ما يحتمله هذا الخوض من احتمالات الإصابة برذاذها والوقوع في بعض الزلل والمعاصي هو أقرب إلى تحقيق غاية الدين من الانسحاب من الحياة، فالإسلام لا يدعو إلى السلامة الفردية وحسب، بل يدعونا إلى صناعة الحياة والدعوة فيها إلى الخير.
حين اعتذر أحد المنافقين في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن الخروج معه في غزوة تبوك متعذراً بخشيته على نفسه من الافتتان بنساء الروم نزل القرآن ليضع مفهوماً جديداً للفتنة غير المفهوم التقليدي، فالفتنة الكبرى ليست في النساء بل هي الانسحاب من الحياة والقعود عن الجهاد: quot;ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرينquot;..
إن قعود هذا الرجل هو الفتنة وليس رؤيته لنساء الروم، والوسيلة الأفضل للوقاية من الفتنة هي في النفير والمواجهة..
ومن الشواهد التي لها دلالاتها على طبيعة وظيفة الدين العمرانية هو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخصاء، وقد كان عدد من الصحابة يودون لو أذن لهم النبي به حتى يمنعهم من الوقوع في الزنا، لكن النبي نهاهم عن ذلك: quot;لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى أَوْ اِخْتَصَىquot;.ويقول سعد بن أبي وقاص quot;رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَاquot;..
لقد كان في الصحابة ميل إلى الرهبانية وكانوا يرون وفق اجتهادهم أن هذا الفعل هو أسلم لإيمانهم وأبعد لأنفسهم عن الوقوع في الزلل، لكن رؤية الإسلام العميقة ترى أن بقاء الشهوة في الإنسان مع ما قد ينجم عنها من الإقدام على الزلل خير من قتلها، لأن وجود هذه الشهوة هو طريق الإبقاء على النوع البشري وتحقيق مراد الله في العمران..والجهاد لا يكون إلا مع وجود الشهوة .
يرسم القرآن لنا في إحدى مواضعه دليلاً آخر على اختلافه عن طريق الرهبانية، فحين عدد الله عز وجل في سورة آل عمران صفات المتقين الذين سيدخلون جنةً عرضها السموات والأرض ذكر من هذه الصفات quot;والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَquot;..
إن عقل الراهب يعجز عن تقديم تفسير مقنع لما يبدو تناقضاً، فكيف يستقيم أن يقع إنسان في الفاحشة، ومع ذلك لا تنزع عنه صفة المتقين..لكن فلسفة الإسلام تقوم على الإقرار بالطبيعة البشرية، وعلى تعرض النفس لكافة تيارات الحياة صعوداً وهبوطاً، وهذا التعرض لتيارات الحياة سينتج عنه عثرات وغدرات وفجرات، لكن العبرة هي بالنهوض والمواصلة والتقدم..
إن نموذج الشاب الناجح في الحياة والذي يتخذ من المسجد وسيلةً لشحن روحه ثم يخرج إلى الشارع لاستئناف نشاطه هو أقرب لتحقيق غاية الدين من نموذج الشاب المنقطع عن الحياة حتى وإن كان نشاط ذلك الشاب يعتريه مخاطر الوقوع في بعض الزلل والإصابة ببعض الرذاذ..
والجهاد في معناه العميق لا يقصد به القتال بالسلاح، بل هو سلوك الذات في مواجهة أعباء الحياة، فالحياة كلها جهاد، وأي إنجاز أو نجاح في الحياة فهو بحاجة إلى الجهاد في سبيل تحقيقه.
فرضية الجهاد في الإسلام-بالمعنى الواسع للجهاد- وحرمة الرهبانية هما أكبر دليل على طبيعة الدين الحركية..
إن مشاركة الشباب الفاعلة في الحياة والنجاح فيها على ما قد تحتمله مخالطة الناس من الإصابة ببعض الرذاذ والوقوع في بعض المعاصي هو خير من سلبيتهم وانسحابهم من الحياة وانقطاعهم في المساجد بحجة المحافظة على الدين والإيمان..
والله أعلم..
[email protected]