في هذا الوقت الذي نتنعم فيه بعبير الحرية، ودفء الشمس، ونأكل الطعام الشهي، وننام على الفراش الوثير فإن إخوةً لنا في سجون الاحتلال الإسرائيلي يواجهون خطر الموت جوعاً بعد أن أعلنوا إضراباً مفتوحاً عن الطعام منذ أكثر من عشرة أيام..
أن يضطر إنسان إلى الاحتجاج بهذه الطريقة القاسية الخطيرة على حياته فهذا يؤشر إلى أي مدى بلغ حاله من المعاناة حتى لم تعد الحياة تعني له الشيء الكثير..
أقصى ما يطالب به المضربون عن الطعام هو تحسين ظروف سجنهم وأن يتلقوا الحد الأدنى من الغذاء والغطاء والرعاية الطبية وأن يسمح لأهاليهم بزيارتهم..
الحديث عن الأسرى في سجون الاحتلال حديث ممزوج بالألم والحسرة والشعور بالقهر والظلم بعد أن تخلى العالم عنهم واستفرد بهم الجلاد الإسرائيلي وقد أمن العقاب وضرب بعرض الحائط كل المواثيق والأعراف الإنسانية..
إسرائيل تقترف هذه الجرائم بحق الإنسانية في الوقت الذي تزعم فيه بأنها واحة الديمقراطية وأنها بلد الحريات والقانون، وهي في سلوكها العملي لا تزيد عن كونها عصابات لا تقيم وزناً لأي قيمة إنسانية أو قانون عالمي..
أكثر من ستة آلاف هو عدد الأسرى الفلسطينيين الذين يقبعون في سجون الاحتلال بينهم 285 طفلاً قاصراً، و143 أسيراً مضى على سجنهم أكثر من 20 عاماً...والمسألة ليست إحصائيات وأرقاماً، فكل واحد من هؤلاء هو إنسان له قصته وعائلته التي تنتظره على أحر من الشوق، وقد توفي مئات من الآباء والأمهات وهم يعدون الأيام والليالي في انتظار أن يكحلوا أعينهم برؤية أبنائهم الذين خطفهم الاحتلال منذ سنوات أو عقود، لكن الأجل داهمهم وفارقوا الحياة دون أن تتحقق لهم هذه الأمنية البسيطة ورحلوا إلى الله يشكون إليه ظلم الظالمين وعلو المستكبرين..
الاقتراب من عائلات الأسرى يقربنا من الإحساس بشيء من معاناتهم المريرة. اتصلت بوالدة أحدهم وهو الأسير خالد الجعيدي من مدينة رفح في عيد الفطر الأخير قالت لي بصوت تخنقه العبرات: هذا هو العيد الثاني والخمسون الذي يمر علي وأنا أعدها عيداً عيداً في انتظار اللحظة التي أحتضن فيها خالد، غير أن العيد هذه المرة يأتي مختلفاً عن الأعياد الواحدة والخمسين السابقة، ذلك أنني كنت أنتظر فيها خالداً أنا ووالده، لكنني هذه المرة سأنتظره وحدي، وسيتضاعف حزني مرتين، مرةً على فراق خالد، ومرةً على فراق أبي خالد الذي رحل عن هذه الحياة قبل أسابيع بعد انتظار دام ستةً وعشرين عاماً دون أن يحقق حلمه باحتضان ولده الأسير..
قصة خالد ليست سوى مثال واحد على آلاف القصص التي يعايشها أهالي الأسرى..من الأسرى من دخل السجن بعد أشهر من زواجه، وزوجه حامل في جنينها الأول، وولد الطفل وكبر وترعرع ثم تزوج وأنجب ، ولا يزال الأب في السجن لم ير ابنه ولا أحفاده، ولو لمرة واحدة..
يبلغ الإجرام الصهيوني حدوداً غير مسبوقة حين يحكم على عدد من الأسرى بعدد فلكي من السنوات، مثال ذلك الأسير حسن سلامة المحكوم ب 1150 سنةً، وحين صدر هذا الحكم بحقه قابله بابتسامة ساخرة من هؤلاء المجانين الذين يظنون أن دولتهم ستدوم حتى ذلك الحين، أو أن عمره سيمتد كل هذا الزمن..
ما يثير في النفس الغضب هو حالة النفاق وازدواجية المعايير التي يتعامل بها العالم مع قضية الأسرى الفلسطينيين، فهؤلاء المتباكون على حقوق الإنسان لم يروا في المشهد كله سوى أسير إسرائيلي واحد أسرته المقاومة وهو على ظهر دبابة يطلق النار باتجاه أطفال غزة، وتحولت قضيته إلى قضية عالمية يتحدث فيها الرؤساء والوزراء في المحافل الدولية، حتى اشتهر اسمه أكثر مما اشتهر أسماء بعض رؤساء الدول، أما الستة آلاف أسير فلا بواكي لهم..
كتبت هذه المقالة مساء الثلاثاء وحين بلغت هذه المرحلة من الكتابة وكنت قد اخترت لها عنوان (أسرانا ألمنا المتجدد)..جاء النصف الآخر من المشهد وهو الأمل حيث تواردت الأخبار عن إنجاز صفقة بإطلاق سراح ألف من هؤلاء الأسرى، وإذ ندعو الله أن تتم الأمور على خير حتى النهاية وأن يعودوا إلى ذويهم، فإننا نقرأ في هذا الصفقة رسالةً إلهيةً بألا نفقد الأمل مهما اشتدت حلكة الظلام فالأيام دول، والفرج يأتي من حيث لا نحتسب، والله يجعل من بعد عسر يسراً..
لكنها ستظل فرحةً منقوصةً ما دام هناك أسير واحد في عتمة السجون، وهذا ما يتطلب جهوداً متكاملةً ومنسقةً بين كافة الجهات الفلسطينية والعربية والإنسانية ترتقي إلى حجم تضحيات الأسرى الذين هم عنوان كرامتنا، ولن ننساهم ما حيينا..
والله غالب على أمره..
- كاتب فلسطيني
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات