كثيراً ما يتحدثون عن استبداد الأقلية وكيف أن رئيساً أو حزباً لا يمثل سوى تيار محدود من الشعب يحكمه ويصادر حريته في التعبير عن رأيه ويفرض عليه بالقوة أن يدين له.. لكن ماذا عن استبداد الأكثرية، هل يكفي أن يكون الإنسان ممثلاً لأغلب الشعب ليفعل ما يحلو له، ويقمع الأصوات الأخرى؟ هل الوصول إلى الحكم بطريقة منتخبة يمنح صاحبه صلاحيات مطلقة؟!..
انتخاب الشعب لحزب ما يعطيه الحق في تطبيق برنامجه الانتخابي، لكنه لا يعطيه الحق في إلغاء الأصوات الأخرى مهما كانت هذه الأصوات محدودة التمثيل للشعب..
يعبر استبداد الأكثرية عن نفسه حين يكثر الحديث من قبل أنصار الحزب المنتخب عن مجيئهم إلى الحكم بطريق الانتخابات، وأن الآخرين ليس لهم رصيد شعبي ذو قيمة، ويقل الحديث في المقابل عن مضمون البرامج والأفكار..
هذه الطريقة في الحديث ليست ديمقراطيةً وليست مبررةً حتى لو كان الحزب الحاكم يمتلك تأييداً شعبياً بنسبة تسعة وتسعين في المائة فهي تدلل على غرور بالنفس وتبعد المجتمع عن مناقشة الأفكار والاستفادة منها، وتدخله في دائرة التفاخر بالمظاهر فيصير حالنا شبيهاً بمن تحدث عنهم القرآن: quot;قالوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّاquot;..
كما أنها تدلل على حالة إفلاس وعجز عن تقديم إجابات شافية لأسئلة الجماهير الملحة، والفوز بالأكثرية لا يكفي وحده ليكون دليلاً على صحة البرنامج الانتخابي لإحدى الأحزاب، لأن هناك عوامل كثيرة تؤثر على قرار الناخب فربما كان اختياره لإحدى الأحزاب نكايةً بالحزب الحاكم وقتها، وربما غلب عليه الجانب العاطفي أثناء تصويته، وربما تغيرت الظروف والقناعات بعد التصويت، ففوز إحدى الأحزاب لا يعطيه شرعيةً أبديةً، بل هو تفويض محدود بجدول زمني ليطبق ما دعا إليه من برامج وأفكار، فإذا لم ينجح في تطبيق برنامجه فإن الجمهور سيفقد الثقة به..
لكن إذا أردنا مناقشة الموضوع من ناحية مبدئية، فلو لم تتغير قناعات الجمهور واستمر تأييد إحدى الأحزاب وأعيد انتخابه ثلاثين مرةً متواليةً، حتى في هذه الحالة فإنه لا يملك الحق في اضطهاد الصوت الآخر حتى لو كان هذا الصوت الآخر لا يمثل إلا صاحبه، لأن شرعية الفكرة لا تستند إلى عدد المقتنعين بها، بل تستمد من ذاتها..
في القرآن الكريم كثيراً ما يأتي ذم الأكثرية quot;ولا تجد أكثرهم شاكرينquot;، ولكن أكثر الناس لا يؤمنونquot;، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلونquot;، ولا يستوي الخبيث ولا الطيب ولو أعجبك كثرة الخبيثquot;.. ونحن بالاستدلال بهذه الآيات لا نقصد أن ننزل أوصافها على الناس اليوم بأنهم لا يسمعون أو لا يعقلون.. فقط نريد من هذه الآيات التدليل بأن الأكثرية والأقلية ليست وحدها مقياساً كافياً لمحاكمة الأفكار. فإذا وجدنا حزباً لا يمثل سوى واحد% من أصوات الشعب فهذا لا يعني أن تناله سخريتنا وأن نزهد في محاورته والاستفادة من أفكاره، والعكس صحيح فلو كان حزب يمثل التيار الجارف فهذا لا يعني أن أفكار هذا الحزب صارت مقدسةً لا يجوز مناقشتها ونقدها..
إن كون إحدى الأحزاب يمثل الأكثرية في إحدى البلاد يعطيه الحق في حكم تلك البلاد فترةً زمنيةً محددةً، لكنه لا يعطيه الحق في إلغاء الصوت الآخر وفرض رأيه على الآخرين.والذين يمثلون الأقلية لا يحق لهم أن يحكموا البلاد بطريقة غير شرعية مهما كان إيمانهم بصحة أفكارهم، لكن حقهم في الدعوة إلى أفكارهم والعمل على تحشيد رأي شعبي حولها لا يقل عن حق الأكثرية، ولهم الحق في امتلاك نفس وسائل الإعلام وقنوات الاتصال مع الجمهور ليبلغوهم أفكارهم..
إن من غياب فقه الديمقراطية الحقيقية في بلادنا أن نظن أن الديمقراطية تعني الأكثرية وحسب فيغلب على محاورتنا للآخرين منطق quot;أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراًquot;، ويغيب عن محاوراتنا صوت الحجة والإقناع..
مجرد التلويح بورقة أننا نحن الأكثرية وأنتم الأقلية في حد ذاته علامة استبداد واضطهاد فكري لأنها رسالة إرهاب للآخرين بألا يعبروا عن آرائهم خشية سطوة المجتمع..
والاستبداد ليس آفة الحكام وحدهم، لكن المجتمعات نفسها قد تكون مستبدةً حين يغيب الوعي ولا تحترم حق كل فرد في التعبير عن رأيه مهما كان هذا الرأي..
استبداد الأكثرية ربما يكون أخطر من استبداد الأقلية، لأن وجود قلة تستفرد في حكم البلاد وتتحكم بمصائر العباد هو عامل تحريض واستفزاز للجماهير لتثور على هذه القلة، أو تفرض حولهم عزلةً اجتماعيةً على الأقل، لكن خطورة استبداد الأكثرية هو أنه يعبر عن خلل بنيوي عميق في ثقافة المجتمع وتقبله للآخر، والتحرر من استبداد الأكثرية بخلاف استبداد الأقلية بحاجة إلى عملية انقلاب شاملة في المجتمع..
مثال استبداد الأكثرية هو الأقوام التي يحدثنا عنها القرآن في مواجهة أنبيائها، فقد كانت الأقوام تمثل الأكثرية الساحقة، لكنها كانت تسيء استعمال هذه الأكثرية وتظن أنها تعطيها الشرعية لمحاربة الأنبياء أصحاب الدعوة الجديدة quot;وإنا لنراك فينا ضعيفاquot;..
لو أن مقياس الأكثرية والأقلية يكفي وحده لمحاكمة الأفكار لما كان هناك مبرر لظهور المصلحين و الأنبياء، ولما تقدم التاريخ الإنساني، لأن كل الدعوات عبر التاريخ كانت تبدأ بالقلة المؤمنة قبل أن تكسب المؤيدين وتنتشر، وربما لا تكسب المؤيدين إطلاقاً وتظل أقليةً مثل دعوة نوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما آمن معه إلا قليل، فهل كان هذا مقياساً كافياً لنزع الشرعية عن دعوة نوح عليه السلام..
إن نوح عليه السلام مثله مثل كل الأنبياء والمصلحين لم يكن يستمد شرعيته من الشعب، بل كانت شرعيةً أخلاقيةً مبدئيةً لا يضيرها ألا يؤمن معها إنسان واحد..
يكفي ليكون الإنسان صاحب شرعية أخلاقية أن يكون مؤمناً بفكرة وحسب، فيحق له أن يدعو الناس إليها دون أن يرهبه أحد بسطوة السلاح أو المجتمع، فإذا كانت أفكاره صحيحةً فإن العاقبة لها وستتحول يوماً ما إلى أكثرية، وإن لم تكن كذلك فإن الأيام كفيلة باندثارها دون أن تكون هناك حاجة لقتلها واضطهادها..
quot;فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرضquot;
والله أعلى وأعلم..
[email protected]
التعليقات