الغاية الأساسية في حياة الإنسان هي تطهيره وتزكيته، وهو ما تنجح فترات المحن العصيبة في تحقيقه أكثر من فترات ما بعد النصر والإمساك السلطة..

لقد مر عام كامل على محنة الشعب السوري وهو يواجه أبشع أشكال التقتيل والتنكيل والإجرام من قبل العصابة المغتصبة للسلطة..
طالت المحنة وتعاظمت كما لم يحدث مع نظيراتها في الشعوب الأخرى حتى أوشكت الثورة السورية أن تسجل اسمها كثورة فريدة نسيج وحدها تجدر دراستها كظاهرة تاريخية نادرة تتجسد فيها معاني كسر حاجز الخوف وولادة الإنسان الجديد بعد عقود من الرعب والإذلال، وتحرر الروح من أغلال العبودية، وحياة الشعوب من بعد الموت وبطلان السحر العظيم الذي استرهب به الناس..
في هذه الظروف العصيبة التي تعاظم فيها القتل والإفساد وهتك الأعراض ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً وبلغت القلوب الحناجر وظن الناس بالله الظنونا..يتساءلون أليس الله قادراً على أن ينصر عباده المؤمنين ويهلك القوم المجرمين..إذاً لماذا لا يفعل وإلى متى يسمح لهؤلاء الظالمين بالعلو والإفساد وسفك الدماء..ألم يقل الله ادعوني أستجب لكمquot;..هاهم عباده المؤمنون منذ أكثر من عام يتضرعون إليه قائلين quot;ياالله ما إلنا غيرك يااللهquot;. أين الحكمة والعدل والحق في هذا الواقع الذي يسود فيه الظلم والطغيان!!
مثل هذه التساؤلات تنطلق بها الأفئدة المكلومة وتتولد تحت ضغط الألم والمعاناة التي يعايشها الإنسان فتحجب عنه رؤية الصورة الكاملة حتى لا يعود قادراً على إبصار ما هو أبعد من ساعته ويومه، فلا يرى الحدث في سياقه التاريخي أو الوجودي الكامل الشامل..
لقد قرر القرآن أن هلاك الظالمين سنة وجودية لا تحويل لها ولا تبديل مثلها في ذلك كمثل قوانين الفيزياء والرياضيات، والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة القرآنية فلم يذكر لنا يوماً أن دولةً أو حضارةً قامت على الإرهاب ومصادرة حرية الناس كتب لها البقاء، وكل أسباب القوة المادية من امتلاك الأسلحة والأموال ودعم القوى السياسية العظمى لا يحول دون سقوطها، لأن علة السقوط الأساسية هي علة داخلية وهي الظلم، وليست علةً خارجيةً تتوقف على طبيعة العلاقات الإقليمية والدولية، فلو دعم العالم كله النظام السوري فإن هذا لن يحول بينه وبين السقوط الحتمي ما دام ظالماً لشعبه..
لكن مقياس التاريخ يختلف عن مقياس الأفراد فما يراه الأفراد حقباً طويلةً لا يتعدى في مقياس التاريخ برهةً خاطفةً quot;ساعةً من نهارquot;، quot;وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدونquot;..والقرآن يحرض فينا التفكير المتفائل: quot;أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعونquot;..إن علينا أن نتجاوز قسوة اللحظة الحاضرة ونستشرف المستقبل المفعم بالأمل..دعهم يتمتعوا سنوات أخرى ثم ماذا يكون..حين تأتي ساعة نهايتهم الحتمية فإن كل هذه السنوات التي نستعجل الآن انقضاءها ستبدو وكأنها لم تكن سوى لحظة خاطفة.
أضرب مثلاً القذافي الذي حكم البلاد والعباد اثنين وأربعين عاماً ظلم فيها وطغى وتجبر..كم في هذه الأعوام الطويلة من دماء سفكت ومن حقوق سلبت ومن دموع ذرفت ومن دعوات للمظلومين ارتفعت..لكن ماذا بعد هذه الأعوام الطويلة.. كيف ينظر الآن إلى عهد القذافي سوى أنه عهد بدأ وانتهى كأنه لحظة خاطفة من لحظات الزمن quot;كأن لم يغنوا بالأمسquot;، quot;هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاًquot;..
لقد انقضى عام كامل وأهلنا في سوريا يعانون الأمرين، لكن هذا العام هو بمقياس التاريخ برهة خاطفة، ماذا يساوي أن يمارس هؤلاء القتل والإفساد بضعة أعوام ثم تكون نهايتهم القاصمة ويطوى ذكرهم إلى الأبد؟؟
لكن مع ذلك لماذا لا يعجل الله النصر لعباده وفق مقاييسهم البشرية، ولماذا يسمح لهؤلاء الظالمين بأن يتمادوا إلى الحد الذي يزرعوا فيه الموت والحزن في كل بيت قبل أن يرحلوا؟؟..
إن هذا يعيدنا إلى مناقشة أصل القضية لنفهم المراد الإلهي من الخلق..
إن تحقيق النصر هو غاية بشرية لكن هل هو غاية الله كذلك من خلق الوجود أم أن الغاية الإلهية تختلف عن غاياتنا البشرية؟؟
حين وعد الله عباده المؤمنين بالنصر لم يجعله الغاية الأساسية في هذه الحياة إنما هدفاً ثانوياً: quot;وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريبquot;..أي إن المراد الأساسي لله عز وجل في هذه الحياة هو مراد آخر ولكنه سيمنحكم النصر كنتيجة ثانوية لأنكم تحبونه.. والنبي صلى الله عليه وسلم ذاته لم يكن يضمن أن يحقق النصر في حياته quot;فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعونquot;..
إن فلسفة الإيمان تقول لنا إن هذه الدنيا هي محطة عابرة للابتلاء والتمحيص وليست داراً للخلود والاستقرار، لذا فإن الهدف الإيماني هو هدف حركي وليس سكونياً، وهذه الحركية التي يسعى إليها الإيمان لا تتحقق ببقاء الناس على حالة واحدة بل بتعاقب كافة الظروف عليهم من نعماء وضراء، وخير وشر، ومن شأن سرعة تحقيق النصر وزوال المحنة أن يدفع الناس للسكون والاستقرار وهو ما لا يستقيم مع فلسفة الحياة..لذا فإن أوقات المحنة التي يعيشها البشر ليست أوقاتاً ضائعةً نستعجل ما بعدها، بل هي مقصودة لذاتها كما أن أوقات النصر والتمكين بعدها مقصودة أيضاً..
إن الحياة بوتيرة واحدة هي حياة مملة رتيبة لا تستقيم مع هدف الابتلاء الذي خلق الإنسان من أجله..
لقد خلق الله الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، ولا يتحقق الابتلاء إلا بتعريض الناس للشدة والبأس لتمييز معادنهم واستخراج أفضل ما فيهم، كما أن النار هي التي تميز الذهب من الشوائب العالقة..
إن الله لا يقصد تعذيب عباده، ولكنه يقصد أن يزكيهم ويطهرهم ويستخرج كوامن الخير في نفوسهم فيعرضهم للابتلاء والمحنة ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين..
ثم إن تحقيق النصر والإمساك بالسلطة هو مظنة فساد وطغيان quot;إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنىquot;..فلو منح الله عباده النصر دائماً لبغوا في الأرض..لذا فإنه يربيهم ويطهرهم بأن يطيل أمد محنتهم للغربلة والتمحيص، ولو كان النصر سهل المنال سريع التحقق لركب موجة الثورة المنافقون والذين في قلوبهم مرض، ولكن إطالة أمد المحنة يحرم هؤلاء المتسلقين من فرصة الزعم بأنهم كانوا مع الثورة بعد انتصارها، فترك الأمور حيناً من الدهر في المنطقة الرمادية قبل أن تتبين العاقبة وترجح الكفة هو ضروري للتفريق بين أصحاب المبادئ وأصحاب المصالح، وهذا ما نجحت الثورة السورية فعلاً في تحقيقه، ففي الحالة المصرية مثلاً لم نستطع أن نكتشف حقيقة الموقف الأمريكي أو الروسي لأن سرعة انتصارها دفع هؤلاء إلى الكذب والقول إنا كنا معكم، لكن طول أمد الثورة السورية أحرج كل الأطراف، لأنهم من جهة لا يستطيعون أن يدعموا الشعب دعماً حقيقياً فلا ينتصر، ومن جهة أخرى لا يستطيعون أن يتخلوا عن النظام تخلياً كاملاً فيضر هذا بمصالحهم إن قدر له البقاء...
جاء في الحديث النبوي أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وهذه الفترة القاسية من الابتلاء والتمحيص التي يمر بها الشعب السوري تهيئه لمواجهة التحديات العظيمة التي تنتظره بعد إسقاط النظام، لأن إسقاط النظام ليس هو الهدف، بل إن الهدف هو ما بعد ذلك، والقرآن يركز على من سيخلف فرعون أكثر من تركيزه على هلاك فرعون quot;عسى ربكم أن يهلك عدوكم ثم يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملونquot;..إن هلاك فرعون آت لا ريب فيه ما دام ظالماً وفق سنن التاريخ، ولكن المهم ماذا أنتم صانعون حين تخلفونه في السلطة..
لقد طالت غفلة الشعوب العربية وموتها في ظل أنظمة الاستبداد عقوداً طويلةً. وانتقالها من زمن الاستبداد إلى زمن الحرية يتطلب مرحلةً انتقاليةً تمحص فيها هذه الشعوب وتتعرض لنار المحنة لصقل معدنها وإسقاط خبثها، والقضية ليست قضية إسقاط نظام بل هي قضية إحياء مجتمع، وهو ما يتطلب غربلةً تنفذ إلى نفوس القطاع العريض من الشعب لتهيئته لاستقبال شمس الحرية المشرقة..
وما يتعرض له الشعب السوري اليوم على قسوته وشدته إلا أنه يخلقه خلقاً جديداً، فقد نجحت هذه الثورة المباركة في بث روح جديدة تتوق للتضحية والفداء في سبيل نيل الحرية، وكلما طال أمد المحنة كلما قويت هذه الروح وعظمت، حتى أنها لن تقنع بإسقاط النظام، وستعبر هذه الروح عن نفسها في العهد الجديد بالانطلاق نحو تحرير الجولان، وربما المساهمة الأساسية في تحرير فلسطين.
إن الله يعد الشعب السوري لأمر عظيم، وكلما كانت المهمة أعظم كلما كانت الحاجة إلى تربية وإعداد أكبر..
يقول الحق تعالى quot;ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيبquot;..دلالة هذه الآية واضحة بأن الشدة ليست هدفاً لذاتها ولكن الهدف هو التمييز بين الخبيث والطيب، وهذا ما حققته الثورة السورية بشكل نموذجي خلال عام من عمرها فيصح أن نقول إن الثورة السورية قد نجحت حتى قبل أن يكتب فصلها الأخير، فكم من الأوهام تعرت، وكم من السوآت افتضحت بفضل هذه المحنة التي يتعرض لها أهلنا في سوريا..
لقد أسقطت هذه الثورة المباركة الكثير من الخبث وأعلمتنا الصادقين من الكاذبين، فتساقط أتباع النظام في الداخل من مثقفين وفنانين ووعاظ سلاطين وظهر نفاقهم وافتضح عوارهم، وسقطت أسطورة ما يسمى حزب الله سقوطاً مدوياً وسقطت معه إيران ومشروعها الطائفي العنصري الخبيث، وسقطت روسيا والصين أخلاقياً وتبين للناس مدى تجردهم من كل قيمة إنسانية، وأن حرية الشعوب وكرامتها لا تعني شيئاً أمام جشعهم وحساباتهم السياسية الضيقة، وسقط أيضاً الغرب الرسمي واتضح مدى خبثه وكذبه في ادعائه حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، فلو كان هذا الغرب جاداً في إسقاط نظام بشار الأسد لفعل هذا منذ البداية، ولكنه لا يدافع عن حقوق الشعوب إلا بالكلام بينما يترك الفرصة للنظام ليفتك بشعبه دون محاسبة أو معاقبة جادة، وسقط قبل ذلك وهم ممانعة هذا النظام لإسرائيل، فرأينا إسرائيل أحرص الأطراف على إبقاء هذا النظام وحمايته من السقوط، فيا لفضيحة نظام يزعم الممانعة بينما العدو هو أحرص الناس على بقائه....
كيف كنا سنعرف كل هذه الحقائق الصادمة لولا المحنة السورية؟!..
إنه لو لم يكن هناك من فائدة لهذه المحنة إلا بتعرية كل هذا القدر من الأوهام لكفاها شرفاً وفخراً فجزى الله الشدائد كل خير عرفت بها صديقي من عدوي..
من سنن الله عز وجل الثابتة في الوجود أن يحق الحق ويبطل الباطل، وهذه هي فلسفة التاريخ أن يسير في اتجاه إحقاق الحق وإبطال الباطل..وإحقاق الحق يكون بتثبيته وإظهاره وتعريف الناس به بينما إبطال الباطل يكون بتعريته وإسقاطه وفضحه، والله عز وجل يغار على الحق فيأبى إلا أن يظهره ولا يريد أن يظل الناس مخدوعين إلى الأبد بالأوهام فيسير الأحداث وفق حكمته البالغة لتكشف الخداع وتثبت الحق وحده وتسقط ما عداه، لذا فإن الأوهام التي أسقطتها الثورة السورية كان لا بد أن تسقط حتماً مقضياً، ولو لم تكن الثورة السورية لساق الله حدثاً آخر ليضع حداً لغفلتنا وأوهامنا، ويعرفنا بالحقائق المغيبة..
إن من أهداف المحنة أن يستثير الله كوامن الخير في نفوسنا..فقد سبق في علمه أن هناك من عباده من في أعماقهم بذرة خير كامنة لم تظهر للعيان، فيأبى بعدله ولطفه ورحمته إلا أن يسوق الأحداث لتظهر هذه البذرة quot;يابني إنها تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها اللهquot;.. وكما قال أحدهم الناس في العافية سواء فإذا ابتلوا تمايزوا..والابتلاء هو الذي يظهر ميزات الصادقين ونفائسهم، ولولا هذه الابتلاءات لما عرفنا للصادقين أقدارهم، ولما استطعنا التفريق بين بلال بن رباح وأمية بن خلف، أو بين عمر بين الخطاب وعمرو بن هشام..تخيلوا لو لم تكن هناك بعثة ورسالة وإيمان وابتلاء، ودرس أحدنا تاريخ العرب في تلك المرحلة كيف كان سيتحدث عن محمد أو أبي بكر أو عمر أو بلال؟؟ كان سيضعهم في قالب واحد مع أبي لهب وأبي جهل وأمية بن خلف..ويتناول حياتهم الثقافية والاجتماعية وملابسهم وعاداتهم وتقاليدهم؟؟
لكن قيمة الابتلاء أنه يعرفنا بالخبيث من الطيب وينزل الناس منازلهم..
يتحدث القرآن عن هذه الفائدة من فوائد الابتلاء فيقول: quot;وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداءquot;، وعلم الله يعني أن يقيم الحجة على الناس في أنفسهم وأن يظهر هذه الحقائق للناس، وإلا فهو يعلم ذوات صدورهم حتى دون الحاجة إلى اختبارهم..
لقد علم الله أن له صفوةً من عباده في بلاد الشام لكن فضلهم مغمور بين الناس فأراد أن يظهر فضلهم ويعلي ذكرهم في الأرض فساق هذه المحنة لتستثير معادنهم وتخرج خير ما عندهم ولتظهره للعيان فظهرت نماذج التضحية والفداء والشهادة التي تستحق الفخر والثناء مما لم نكن نتوقع أن مثلها موجود بيننا. وهكذا فإن المحن هي التي تظهر معادن الناس وتستفز الخير في نفوسهم وتسقط عنها الخبث والزيف..
إن مشاهد المأساة المروعة القادمة من سوريا زادتنا إيماناً بغياب العدالة الكاملة في هذه الدنيا، وأن هناك حاجةً ملحةً تفرضها فطرتنا الإنسانية لعالم آخر تتحقق فيه عدالة مطلقة توزن بمثاقيل الذرة والخردل، ومهما اقتربت البشرية من العدالة فستظل ناقصةً وسيظل البشر عاجزين عن إنصاف كل مظلوم، فكل قوى الأرض لن تنجح في مسح دمعة أم ثكلى بأبنائها، وحتى لو قتل بشار ألف قتلة فلن يشفي قتله غليل أم واحدة فقدت فلذة كبدها، وحتى لو تمكنت البشرية يوماً ما من تحقيق العدالة الكاملة فإنها لن تستطيع أن تستعيد حقوق من ظلموا عبر تاريخ البشرية الطويل..
إن الإيمان باليوم الآخر يبدو ضرورياً لإضفاء الطمأنينة والرضا على نفوس المعذبين في الأرض، وإلا فهي العبثية واللا معنى والجحيم..
إننا مؤمنون يقيناً بحتمية انتصار الشعب السوري على العصابة الظالمة الفاجرة، ولكن حتى يحدث هذا، فإن من دونه فوائد عظيمة للمحنة جديرة بأن نتأملها فتمنحنا الثقة والرضا..
quot;لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكمquot;..

[email protected]