في زمن الفراغ الفكري والعجز عن الإنجاز الحضاري الذي يعيشه المسلمون تبرز الحاجة لتعويض هذا الفراغ..
وهذا ما نجده في موضة الإعجاز العلمي التي شاعت في عصرنا هذا وبولغ فيها إلى درجة التكلف والتلاعب بآيات القرآن ولي أعناقها حتى توافق المكتشفات العلمية..
هناك إشارات علمية واضحة وردت في القرآن الكريم، ووجود هذه الإشارات ضروري للتنبيه إلى المصدر العلوي لهذا الكتاب مثل حديثه عن مراحل تكون الجنين، أو إخباره عن السماء والأرض بأنهما كانتا رتقاً ففتقهما، أو حديثه عن دور الجبال في حفظ توازن اليابسة، لكن هذه الإشارات لا ترقى لتصبح هي الأصل وهي الغاية من إنزال القرآن، فالقرآن كما ليس كتاباً علمياً بل هو كما جاء فيه كتاب هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور..
وحين ننتظر الآخرين ليكتشفوا ثم نبذل جهدنا للبحث في ثنايا القرآن لإثبات صحة هذه النظريات فإن في ذلك إدانةً ضمنيةً لأنفسنا وتعبير عن شعور بالنقص والهزيمة النفسية، لأننا بذلك نعترف لهم بالأسبقية الحضارية، وأننا في موقع الدفاع نسعى لإقناعهم بصحة ما عندنا، كما أننا بذلك نفترض أن كل ما يتوصلون إليه فهو بالضرورة حقائق مسلمة، مع أنها مجرد محطات في مسار التاريخ العلمي، وقد تأتي في الغد نظريات أخرى تبطل نظريات اليوم، وبذلك نرهن القرآن المطلق إلى التجارب البشرية النسبية..
رسالة القرآن الأساسية ليست في هذه اللفتات الإعجازية، بل هي تشكيل شخصية الإنسان روحياً واجتماعياً وحضارياً بما يسعد هذا الإنسان ويقيم العدل في الأرض، وبذلك فإن دلائل عظمة القرآن تظهر في تدبر نظمه وتشريعاته البديعة، وقدرتها على صياغة نماذج عملية، وليس بالتكلف في لي عنق النصوص لتوافق المستجدات العلمية..
إذا أردنا أن نقنع الناس بصدق القرآن فإن السبيل إلى ذلك هي أن نقبل على القرآن بقلوب وعقول مفتوحة ونستلهم منهجه في تشكيل حياتنا الاجتماعية والنفسية والسياسية والحضارية, حينها سيؤمن الناس بالقرآن لأنهم يرون أثره ماثلاً أمامهم على أرض الواقع..
أما أن نظل نقول للناس إن القرآن هو كتاب معجز، وسبق علومكم بألف وأربعمائة عام بينما واقعنا هو أبعد ما يكون عن العلم والحضارة فإننا لن نقنع أحداً بذلك وسنكون دعاةً ضد القرآن وليس دعاةً له..
حين نحدث الناس بهذا المنطق سيواجهوننا بسؤال مزعج: ما دام القرآن يحتوي على كل هذه الحقائق والأسرار العلمية فلماذا لم تبادروا إلى اكتشافها؟؟
الناس يتأثرون بلسان الحال أكثر من تأثرهم بلسان المقال، فكيف نقنعهم بأن الإسلام هو دين العلم بينما حياتنا تغص بالخرافات والجهل، وكيف نقنعهم بأن الإسلام هو دين العدل بينما الاستبداد يضرب بجذوره في بلادنا، وكيف نقنعهم بأن الإسلام يحث على النظافة بينما شوارعنا تغص بالقمامة؟؟..
القرآن يعلمنا بأن ندعو قائلين quot;ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفرواquot; وذلك بأن الذين كفروا إذا رأوا واقع المؤمنين واقع ضعف وهزيمة فإنهم سيقولون لو كان في دين هؤلاء خيراً لأعزهم الله ونصرهم..
في المقابل حين نقدم في واقع حياتنا نموذجاً عملياً جديراً بالاقتداء كما نجحت الثورات العربية في تقديم نموذج التضحية والتحرر من الخوف فإننا بذلك نبرهن بالفعل لا بالقول على قدرة الإسلام على تحرير الإنسان، ولن نكون بحاجة إلى جهد كبير لإقناع الناس، لأن واقعنا سيشجعهم على التأسي بنا دون مشقة..
إن معجزة الإسلام الكبرى هي في قدرته على صياغة نماذج بشرية قادرة على الإبداع والنجاح في كافة الميادين، وهذا ما ينتظر جهدنا لإثباته..
في القرآن الكريم ترد قصة إسلام ملكة سبأ على يد سليمان عليه السلام، واللافت في هذه القصة أن سبب إسلامها لم يكن حديثاً نظرياً معها حول فضائل الإسلام، بل إنها أسلمت حين شاهدت الإنجاز الحضاري في مملكة سليمان عليه السلام مما أغراها باتباعه: quot;فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمينquot;
أرسلت إلي إحدى السيدات رسالةً تزعم بأن القرآن ذكر أحداث الحادي عشر من سبتمبر في سورة التوبة قبل وقوعها بألف وأربعمائة عام مستشهدةً بقوله تعالى: quot; أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمينquot;، وأن هذه الآية وردت في الجزء الحادي عشر في السورة التاسعة، وتحمل رقم 109 وهو عدد طوابق البرج، وورد فيها ذكر اسم الشارع حيث زعموا أن اسمه (جرف هار)، وتتحدث السيدة بانفعال حول ضرورة نشر هذه الرسالة على أوسع نطاق لنثبت للعالم بأن القرآن من عند الله.
مثل هذه المواضيع التي تروج كثيراً عبر الانترنت يكتبها بعض الهواة، وتنتشر بسرعة دون تثبت، مما يدلل على مدى الفراغ الفكري الذي يعيشه شباب المسلمين، وقد رددت على الرسالة بأن الناس في عصر العلم والحضارة لا تستهويهم مثل هذه الأمور الخوارقية، بل يستويهم الإنجاز الحضاري، ولا أبلغ من تقديم نماذج اجتماعية وحضارية متميزة لإقناع العالمين بصحة القرآن وأثره..
وهذه الآية التي يستشهد بها تتناول في موضوعها مسجد الضرار وتتحدث عن معنى عام غير مخصص بحادثة في وقت وزمان معينين، وحين نربطها بهذه الطريقة المتكلفة فإننا نخرجها عن وظيفتها الأساسية.
إننا لن نخدم القرآن بمثل هذه الترهات، وخير وسيلة لخدمة القرآن هي أن ننفتح فكرياً على الحضارة الإنسانية ونهضم آخر إنجازاتها وعلومها، ومن ثم نتأمل القرآن بأفق أوسع أتاحه لنا الاطلاع على المعارف الإنسانية ونستنتج منه نظمه الاجتماعية والتشريعية والتاريخية الرائعة..
أختم مقالتي بالاستشهاد بفقرة من مقالة للباحث عبد الرحمن حللي quot;من العجز الحضاري في الواقع إلى الإعجاز العلمي في النصquot; حيث يقول في تفسير ظاهرة الإعجاز العلمي:
quot;إن ظاهرة التفسير والإعجاز العلمي ظاهرة ظرفية تعكس الوهن الحضاري والثقافة السائدة وستبقى في حالة مد وجزر، وهي الآن في حالة طفرة ورواج سيعقبها زوال وكمون لانكشاف هشاشتها وعدم تأثيرها في دفع الحراك الحضاري للمسلمين، بل إنها تؤدي دوراً سلبياً خادعاً وهو تضخيم وهم الأسبقية واعتبار الإعجاز العلمي نصراً إسلامياً في زمن الهزائم الحضارية.quot;
quot;إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداًquot;
والله أعلم..
[email protected]
التعليقات