(أعظم تجليات معنى الجهاد في هذا العصر هو جهاد الكلمة الذي تمارسه الشعوب العربية في وجه الأنظمة الجائرة)
لعل مفهوم الجهاد من أكثر المفاهيم التي أسيئ إليها في هذا العصر، وشُوه معناه الحقيقي حتى غاب عن كثير من المسلمين أنفسهم فارتبط معنى الجهاد بالقتال والسيف والعنف، وأصبح الجهاد تهمةً يحاول الكثيرون التهرب من إلصاقها بهم، أو يحاولون تبريرها في أحسن الأحوال..
لذلك كان لا بد من قشع الغبار عن هذا المصطلح وإحياء معناه الحقيقي، ليس بالتكلف و تحميل الكلمات ما لا تحتمله من معان حتى ترضى عنا الأمم، ولكن بالعودة إلى الدلالة المباشرة والمعاني القريبة في الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الجهاد..
أصل معنى الجهاد هو مجاهدة النفس أي مغالبتها وحملها على المكاره فهي عملية موجهة للنفس بهدف تزكيتها قبل أن تكون موجهةً نحو الخارج، وفائدتها تعود على النفس أولاً quot;والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلناquot;، ثم يعم نفعها على العالم..فحين يقاوم الإنسان رغبته في النوم ويقوم إلى صلاة الفجر فهو يمارس لوناً من ألوان الجهاد وحين يقاوم رغبته في الشهوات ويصوم فهو يمارس نوعاً من أنواع الجهاد، ويصل الجهاد إلى ذروته حين يبذل الإنسان ماله ودمه في سبيل الله.
التشويه الحاصل اليوم في معنى الجهاد يرجع في إحدى جوانبه إلى الخلط بين الجهاد والقتال، فيظن كثيرون أن الجهاد هو القتال وحسب، وهذا يتنافى مع المعنى الذي نجده في القرآن والسنة لكلمة الجهاد، فالقتال ليس سوى لون واحد من ألوان الجهاد، وهو خيار اضطراري فرضته الظروف الاجتماعية والثقافية السائدة زمن تنزل الوحي وما تلاه من أزمنة، وحتى حين كان المؤمنون يمارسونه فلم تكن ممارستهم له نابعةً من رغبة فيه وقد وصف القرآن هذه الحالة فقال quot;كتب عليكم القتال وهو كره لكمquot;، فلو كان المؤمنون عشاق قتل وقتال لفرحوا بفرضه وما كانوا كارهين، وما يؤكد هذه الحالة النفسية للمؤمنين بكره القتال أيضاً قوله تعالى quot;وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهمquot; فقد امتن الله عز وجل على المؤمنين بتوقف القتال ليس فقط لأنه كان يلحق الضرر بهم، بل إنه امتن عليهم أيضاً بتوقفهم عن قتل أعدائهم quot;وأيديكم عنهمquot;، وما كان المؤمنون ليشعروا أن في توقفهم عن قتل أعدائهم وجه امتنان لو أنهم كانوا عشاق دماء وحروب، وفي الآية شائعة الاستعمال نجد نفس المعنى quot;وكفى الله المؤمنين القتالquot;..
إذاً فقد كان القتال حالةً اضطرارية لجأ إليها المؤمنون بحكم الظروف التاريخية والاجتماعية التي كانت سائدةً في ذلك الوقت، وما دام هذا الخيار اضطرارياً فإن المؤمنين سيكونون أول المرحبين بأي صيغة يتوصل إليها البشر تقلل من خيار الاعتماد على الحروب وتعزز الخيارات السلمية في العلاقات بين الشعوب..
فإذا أتى على الناس حين من الدهر وبلغوا حالةً من النضج فتوافقوا فيما بينهم على تعزيز الوسائل السلمية في تعاملاتهم، وتحولت أدوات المواجهة بدل المواجهة العسكرية المباشرة إلى الأدوات السياسية والاقتصادية والإعلامية، كما بدأ يلوح في هذا العصر سواءً من طبيعة العلاقات بين الدول الكبرى التي تراجع فيما بينها الخيار العسكري، وصارت المواجهة بينها سياسيةً واقتصاديةً وإعلاميةً، أو ما نراه في الأوضاع الداخلية للبلدان من تفوق خيار التغيير السلمي على العنف المسلح..في ظل أوضاع جديدة كهذه فإن المسلم الحق الذي يفقه المعاني العميقة للإسلام ينبغي أن يكون أقدر الناس على التأقلم مع هذا الواقع الجديد، لا أن يرفضه بحجة أن الجهاد ماض إلى يوم الدين وأنه لا يمنعه عدل عادل ولا جور جائر..
هذا الواقع الجديد لا يعني إسقاط الجهاد، بل إنه يفتح الباب واسعاً لأشكال الجهاد الأخرى، فالقرآن قد اعتبر الكلمة والحجة جهاداً كبيراً quot;وجاهدهم به جهاداً كبيراًquot;، والإنفاق والصدقات جهاداً quot;يجاهدون بأموالهم وأنفسهمquot;، وكلمة الجهاد بالنفس ذاتها تتضمن معان أخرى غير معنى القتال فأي عمل يتطلب جهداً بدنياً هو جهاد بالنفس، بل إن الحديث النبوي وفي إشارة لا تخلو من دلالة قد أخبر بأن فتح روما لا يكون بالقتال، ولكن بالتكبير وحسب أي بالكلمة، كما تسقط اليوم الأنظمة بالتكبير..
ولا يكتفي الإسلام بأن يجعل هذه الوسائل السلمية من ألوان الجهاد فحسب مثلها مثل القتال أو أقل منه درجةً كما ينظر إليها البعض بل إنه يجعلها أفضل الجهاد، ففي الحديث الصحيح quot;أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائرquot;، أي إن أعظم الجهاد ليس القتل بالسلاح ولكنه الصدع بكلمة الحق في وجه جور السلطان، وجعل أيضاً الشهيد الذي يقتل في هذه الحالة سيد الشهداء quot;سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتلهquot;..
بهذه الإضاءات نفهم أن الجهاد ليس هو ذلك المفهوم المشوه المستقر في الأذهان من قتل المدنيين وتفجير المباني، بل إن أعظم تجليات الجهاد في هذا العصر هو ما نشهده من ثورات شعبية مباركة في العالم العربي حيث يخرج الأحرار إلى الميادين العامة والطرقات ويصدعون بكلمة الحق في وجه الأنظمة الجائرة، فهذا هو أعظم الجهاد الذي لا يعدله شيء في الأجر، ودع عنك هنا ما يهرف به علماء السلاطين بأن هذه الثورات خروج عن الحكام وفتنة وأن الخروج عن الحكام لا يجوز، فإن لم تكن هذه الثورات الشعبية هي من قول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر، فماذا يكون إذاً؟
أما شهداء هذه الثورات الذين سقطوا في ميادين التحرير والتغيير فإننا نعتذر لهم لأننا لم نوفيهم حقهم، حتى صارت قضيتهم في خضم الانشغال بالأحداث مجرد مسألة إحصائية، نقول لهم: اعذرونا فأنتم قادة هذه المرحلة بلا منازع ، وأنتم من أهديتمونا العزة ثم رحلتم، وأنتم سادة الشهداء الذين قمتم بشرف أعظم مهمة في هذا العصر، وهي مهمة الجهاد ذروة سنام القرآن، واخترتم من الجهاد أعظمه وهو قول كلمة الحق في وجه السلاطين الجائرة..
رحمكم الله وتقبلكم في مستقر رحمته..

[email protected]