بعد مرور أكثر من عام على تنحي الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد بات من المؤكد أن هذا المجلس يدفع بقوة باتجاه إعاقة مسيرة التحول الديمقراطي وأن كل التنازلات التي قدمها خلال هذه الفترة كانت تحت ضغط الشارع وليس انطلاقاًَ من قناعة راسخة لديه بتسليم السلطة لحكم مدني منتخب.
في تقييم سريع لأداء المجلس العسكري خلال الفترة الماضية يتضح بأن هذا المجلس يشكل امتداداً لحقبة مبارك وليس تعبيراً عن طموحات وأهداف الثورة، فمن اللافت للنظر منذ إمساكه بزمام الأمور تعمده الإبطاء في اتخاذ أي خطوات تخدم مسار الثورة وأهدافها التي قامت من أجلها.من أمثلة ذلك أن هذا المجلس لم يقل حكومة أحمد شفيق التي عينها مبارك إلا بعد أشهر من الضغط الشعبي، وظل رمز النظام السابق حسني مبارك حراً طليقاً في شرم الشيخ حتى وصل به الأمر إلى توجيه كلمة للشعب المصري عبر إحدى الفضائيات في محاولة منه لاستعطاف هذا الشارع، ولم يقدم المجلس العسكري على توقيفه إلا بعد ضغوط شديدة من الشارع أيضاً، والمحاكمة التي عقدت لمبارك كانت بدورها مثالاً آخر على سياسة التباطؤ الذي يتعمده المجلس العسكري فهي محكمة هزيلة تبدو أقرب إلى المسرحية السياسية منها إلى المحاكمة القضائية النزيهة، وتبدو هذه المحكمة حتى هذه اللحظة عاجزةً عن العثور في سنوات حكم مبارك الثلاثين على إدانة له، ولم يعد مستبعداً أن يخرج مبارك بريئاً في ختام هذه المسرحية.
يتضح تباطؤ هذا المجلس أيضاً من خلال تعمده إطالة فترة الانتقال الديمقراطي فهو لم يجر الانتخابات التشريعية إلا بعد عام كامل من الثورة، والموعد المقرر للانتخابات الرئاسية هو بعد عام ونصف من الثورة، وهذه المدة الطويلة ليس لها ما يبررها، ولو كان هذا المجلس جاداً في تسليم السلطة لاختصر هذه المدة إلى النصف على الأقل، وفي تونس الشقيقة حجة على إمكانية تسليم السلطة بسهولة إذا صدقت النيات..
على مستوى الأداء السياسي بدا أداء المجلس هزيلاً لا يختلف عن أداء حقبة مبارك.هذا الأداء الهزيل عبر عن نفسه في فضيحة سفر المتورطين في قضية التمويل الأجنبي، كما عبر عن نفسه في العلاقة مع كيان الاحتلال من جهة ومع قطاع غزة من جهة أخرى، فالمشير طنطاوي سارع منذ اليوم الأول إلى التأكيد على المحافظة على الاتفاقيات الدولية وتلقى اتصالاً من قادة الاحتلال، وإذا كنا قد عذرنا المجلس في حينه بأنه يمر بمرحلة انتقالية لا يستطيع فيها فتح كافة الجبهات فإن في تصرفاته بعد ذلك ما يؤكد أنه يعمل بإخلاص للبقاء على خط مبارك السياسي وأن المسألة ليست مجرد اضطرار حتى نعذره.من ذلك موقفه بعد اقتحام السفارة الإسرائيلية فقد كانت فرصةً للاعتذار عن تعليق العلاقات مع الكيان لأن الوضع الأمني لا يسمح بوجود سفير إسرائيلي في مصر، إلا أن مسئولين أمنيين مصريين ناقشوا مع مسئولين صهاينة البحث عن مكان بديل لإقامة السفارة الإسرائيلية، ومن ذلك أيضاً الموقف من عمليات تفجير خط الغاز المؤدي لدولة الاحتلال، فرغم وجود سخط شعبي عارم تجاه تصدير الغاز بأسعار زهيدة لدولة الاحتلال، ورغم تفجير هذا الخط أكثر من اثنتي عشرة مرةً إلا أن السلطات المصرية كانت في كل مرة تعود لإصلاح الخط واستئناف ضخ الغاز متجاهلةً نبض الشارع، ومتجاهلةً هذه الفرصة للتهرب من تصدير الغاز، وفيما يتعلق بقطاع غزة فإن واقع الحصار بقي كما هو، وعبرت سياسة التباطؤ عن نفسها في قضية معبر رفح الذي ظل على ذات الحال الذي كان عليه زمن مبارك أشهراً طويلةً، وحين كانت السلطات المصرية تمنح الفلسطينيين بعض التسهيلات على المعبر فقد كانت تمنحهم إياها بالتقطير، وكانت أحياناً تتراجع عن هذه التسهيلات ولا يزال المعبر حتى اليوم يحتوي على كشوفات لممنوعين من السفر لأسباب سياسية.بل إن ما يشهده قطاع غزة هذه الأيام من أزمة وقود سببها منع عبور شاحنات الوقود من كوبري السلام هي أزمة غير مسبوقة حتى في أيام مبارك
هذه الأمثلة وغيرها تدلل على أن السلطة الحاكمة في مصر لا تتحرك وفق قناعة ببدء مرحلة جديدة وإنما تسعى بكل جهدها أن تظل وفيةً للماضي الذي انقلبت الثورة عليه، وهي لا تتنازل إلا بالقدر الذي يلجئها الضغط الشعبي والإعلامي عليه.
حتى في حالة إجراء الانتخابات التشريعية بعد أشهر من المماطلة فإن سلوك المجلس يدلل على أنه يسعى إلى تفريغ مجلس الشعب المنتخب من محتواه، فهذا المجلس رغم أنه أكثر هيئة شرعية في مصر في الوقت الحالي كونه جاء بانتخابات نزيهة وشفافة إلا أن المجلس العسكري لا يبدو أنه ينوي التسليم بحق هذا المجلس في ممارسة صلاحياته التنفيذية، ظهر هذا في الموقف من حكومة الجنزوري المتورطة في فضيحة هروب المتورطين في قضية التمويل الأجنبي، وفي قضايا فساد مالي وإداري، وفي حالة الفلتان الأمني التي تشهدها مصر..ومع ذلك فإن مجلس الشعب يبدو عاجزاً عن حجب الثقة عن هذه الحكومة وفق ما تخوله إياه صلاحياته القانونية، وتتداول مصادر إعلامية بأن المجلس العسكري هدد الإخوان المسلمين بالطعن في دستورية المجالس النيابية في حال إصرارهم على إقالة الجنزوري..وهذا التهديد كارثي من وجهين، فهو من جهة يدلل على أن المجلس العسكري يتخذ من المحكمة الدستورية العليا أداةً في يده يسيرها كيفما يشاء فهذا المجلس ذاته هو الذي سمح بإجراء الانتخابات التشريعية على الأساس الدستوري الحالي فلماذا سكت طوال الفترة السابقة إن كان هناك خلل في الأساس الدستوري للانتخابات التشريعية، ومن جهة أخرى فإن إصرار المجلس العسكري على التمسك بحكومة أثبتت فشلها في كافة الميادين لا يدلل إلى على سوء نية، ورغبة في الانقلاب على الديمقراطية وتزوير الانتخابات القادمة..
يضاف إلى هذه المؤشرات ترشيح عمر ترشيح عمر سليمان أحد أهم أركان نظام مبارك نفسه في الانتخابات الرئاسية، وفبركة مسرحية بأن هذا الترشيح جاء نزولاً عند رغبة الجماهير التي مارست ضغطاً عليه للدخول في سباق الرئاسة.
هذه المعطيات تضعف الثقة برغبة المجلس العسكري الأعلى في تسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة، وحتى في حال إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها فإن هذا لا يدعونا للذهاب بعيداً في التفاؤل في ظل المعطيات الراهنة، فقد يدفع باتجاه نجاح عمر سليمان أو غيره من وجوه النظام القديم حتى لو تطلب الأمر تزوير الانتخابات، وحين يصبح كل رهان الإخوان هو على نزاهة هذه الانتخابات فإن موقفهم يكون ضعيفاً،.
عمل المجلس العسكري طوال المرحلة الانتقالية على إضعاف الزخم الثوري، وكان يؤدي لعبةً خبيثةً تقوم على تحييد الإخوان المسلمين القوة الأكثر تنظيماً وشعبيةً في الساحة عن الحراك الثوري، مما أساء إلى الإخوان المسلمين الذين كانوا يراهنون طوال تلك الفترة على تهدئة الشارع للسماح بخطوات الانتقال السلمي للسلطة، وفي ظل تحييد القوة الأكبر استفرد المجلس العسكري بالأقباط تارةً وبحركة السادس من أبريل تارةً أخرى، وبغيرها من النشطاء تارةً ثالثةً، وبذلك نجح في إحداث شرخ في صفوف الثوار، وصار الثوار ينظرون لجماعة الإخوان بأنها قد باعت الثورة، وعقدت صفقات سريةً مع المجلس العسكري، وفي هذا الوقت فإن إغراق المواطن المصري بمشكلات من قبيل نقص الوقود، والفوضى الأمنية يبدو مقصوداً لإنهاكه وحمله على عدم التفكير بالعودة إلى الثورة ثانيةً.يدعم هذا كله مشاهد الثورة السورية التي تعسرت ولادتها ونزفت خلالها كثير من الدماء مما يفقد صورة الثورة شيئاً من بريقها الجذاب..
في ظل هذه المعطيات نتساءل ما هي حقيقة نوايا المجلس العسكري، وما الذي عناه في بيانه مساء الأحد حين طالب الجميع بأن يعوا دروس التاريخ لتجنب تكرار أخطاء ماض لا نريد له أن يعود..هل قصد من هذه الفقرة التلميح إلى إمكانية تكرار انقلاب الخمسينيات؟؟
لكن رغم كل هذه المعطيات المؤشرة على سوء نية يبيتها المجلس العسكري، وعلى عدم رغبته في التخلي عن السلطة إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنه سينجح، كل ما يعنيه الأمر هو أن على جماعة الإخوان المسلمين تحديداً والقوى الشعبية المصرية عموماً أن تتخلى عن الركون إلى حسن نوايا المجلس وأن تعمل على إرسال رسالة قوة صارمة إليه، وأن تعيد الزخم الثوري إلى الشارع، ولا تنتظر حتى اللحظة الحرجة التي يزور فيها المجلس الانتخابات لأن نزولها إلى الشارع بعد ذلك لن يجلب لها التعاطف الشعبي..
إن سياسات المجلس العسكري تذكرني ببني إسرائيل الذين لم يكونوا يؤمنون إلا والجبل واقع بهم كأنه ظلة، فإن انزاح الجبل رجعوا إلى تكذيبهم، وهذا هو حال المجلس العسكري الذي لا يقدم التنازلات إلا والضغوط واقعة عليه، فإن خفت الضغوط الشعبية وركن الناس إلى حسن نواياه عاد إلى تنصله وتنكره، والحل معه هو ضرورة الإبقاء على حالة من الزخم الثوري تلجمه عن أي تفكير في اغتصاب السلطة وخيانة الأمانة التي ائتمنه الشعب عليها.
والله المستعان..
[email protected]