في أزمنة الأنبياء كان الناس أكثر قدرةً على التأمل، وأكثر إيماناً بالماورائيات من عصرنا هذا..لا أقصد بذلك أتباع الأنبياء وحسب بل أقصد الناس بشكل عام حتى أولئك الذين كفروا برسالات الأنبياء، أي أن هذه الروحانية التي أتحدث عنها كانت إحدى خصائص تلك العصور بغض النظر عن إيمان كل فرد أو كفره.
يتضح هذا من خلال محاججة الأقوام لأنبيائهم في القرآن. في سورة فصلت ترد أقوام عاد وثمود على أنبيائهم: quot;قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَquot;، وهناك آيات أخرى تدور حول نفس المعنى وهو احتجاج الأقوام على أنبيائهم بعدم إنزال الملائكة..أي أن تلك الأقوام على كفرها كانت تؤمن بوجود الله وبوجود الملائكة والجن.فهذا الإيمان بالعالم الما ورائي كان جزءً من مكونات الثقافة البشرية، وربما يعود سبب ذلك أن إنسان ذلك الزمان كان أكثر قرباً من الطبيعة وأكثر قدرةً على الخلوة والتدبر فصار أكثر حساسيةً تجاه المعاني الروحانية في هذه الطبيعة، وأكثر قدرةً على اكتشافها..ومن هنا فإن دعوة الأنبياء وطبيعة القضايا التي كانوا يطرحونها في ذلك الزمان كانت منسجمةً مع الطبيعة الدينية لإنسان تلك الأزمنة، وحين كان الأنبياء يأتون بمعجزات خارقة للطبيعة كان الحديث عن هذه المعجزات يبدو متفهماً في زمان تسود فيه حالة من الشفافية الروحية والاهتمامات الما ورائية..
لكن في هذا الزمان الذي نعيشه اختلفت أفكار الناس واهتماماتهم فقد طغت المادة وحجب ضجيج الحياة وضوضاؤها الإنسان عن الاتصال بالطبيعة والخلوة مع الذات والتأمل في السموات والأرض..فنحن اليوم أمام إنسان أقرب إلى الإلحاد منه الإيمان وهو لا يؤمن إلا بما يلمسه بيديه، لا يؤمن بملائكة ولا جن ولا عالم ما ورائي مما كان يؤمن به الإنسان الأول..فكيف نخاطب إنساناً بهذه المواصفات..وهل لا يزال نمط الخطاب الذي كانت الأنبياء تخاطب به أقوامها صالحاً لأن نخاطب به الإنسان في هذا الزمان..
هناك ولا شك مبادئ عامة في رسالات الأنبياء لا تتغير مهما تغيرت الظروف الزمانية والثقافية مثل الدعوة إلى التوحيد وإلى العدل وإلى الصلاح الخلقي وما إلى ذلك، لكنني أقصد هنا اللسان الذي نخاطب به أقوامنا فهذا الذي يجب أن يتغير مع كل تغير في ثقافة الناس وتفكيرها quot;وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهمquot;..وكما كانت دعوات الأنبياء لأقوامهم في الماضي البعيد منسجمةً مع روح تلك العصور فإن دعوتنا للبشرية في القرن الواحد والعشرين ينبغي أن تكون منسجمةً أيضاً مع روح هذا العصر الذي نعيشه.
طبيعة اهتمامات الناس اليوم تبتعد عن القضايا اللاهوتية والغيبية وتركز أكثر على القضايا العملية .فالناس اليوم لا يهتمون بمسألة خلق القرآن مثلاً، فهي لا تحتل أي مركز في تفكيرهم، وبالتالي فإن محاولة الإجابة عنها بغض النظر عن هذه الإجابة هي مضيعة للوقت، وإذا كنا نتفهم أن يبتلى الإمام أحمد في هذه المسألة ويجلد بالسياط فإننا نقدره ونُجلّه لمبدأ ثباته على كلمة الحق وليس لتفاصيل المسألة، ونفس الشيء يمكن أن يقال في طبيعة المواضيع التي تتناولها ما تسمى بحوارات الأديان فهي مواضيع كثيراً ما تكون قديمةً ولم تعد تمثل اهتماماً للإنسان المعاصر..
تفرض علينا طبيعة العصر أن نجدد خطابنا الديني ليصبح أكثر ملاءمةً لروح هذا العصر ولاهتمامات الناس، فقضايا مثل الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان تستهوي الشعوب في هذا الزمان أكثر مما يستهويها محاولة إثبات نبوة محمد، أو المقارنة بين نصوص الإنجيل والقرآن، أو مناقشة طبيعة المسيح..لا يعني كلامي هذا أنني أعارض أن تناقش مثل هذه القضايا وفق منهج علمي متجرد من العواطف والعصبيات والأحكام المسبقة، ولكن ألا تحتل هذه القضايا سلم الأولويات في خطابنا الديني، أو أن ننظر إليها وكأنها وحدها هي الدين..
لقد بذل الشيخ أحمد ديدات رحمه الله جهداً جباراً في الرد العلمي على المعتقدات المسيحية وتفنيد الكثير من الأباطيل، لكن ماذا يفيد هذا الجهد العلمي الهائل في مجتمعات إلحادية لا تهتم أصلاً بهذه القضايا وتنظر إليها بأنها قضايا تاريخية ميتة ولم يعد يشغل بالها أن تكون المسيحية صواباً أو خطأً..هذا هو موضع انتقادي..
إن من الدين أيضاً أن نتحدث عن حرية الإنسان وكرامته وعن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وأن نحارب الظلم والاستبداد والاستكبار، فهذه قضايا دينية، بل هي من صميم الدين وهي أقرب لروح هذا العصر من تلك المسائل..
لا نقصد بالدعوة إلى أن يكون خطابنا الديني أكثر ملاءمةً لروح العصر أن نخترع خطاباً دينياً جديداً يركب موجة التطور البشري حتى يقتنع به الناس، بل نقصد العودة إلى المنابع الصافية للدين واشتقاق الخطاب الديني منها. فالحديث عن العدالة والحرية وكرامة الإنسان هي من صميم الدين، وكلمة لا إله إلا الله التي هي أساس الدين ليست شأناً ميتافيزيقياً، بل هي دعوة إصلاح سياسية واجتماعية، فالإيمان بوحدانية الله يترتب عليه الكفر بكل الامتيازات والطبقات التي تفرق بين البشر، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية النفسية، فمن يؤمن بأن السادة والكبراء ليسوا آلهةً ولا يملكون له ضراً ولا نفعاً سيتحرر نفسياً من سلطانهم ولن يبالي بأحد في قول كلمة الحق، وسينتج عن هذا التوحيد إقامة العدل بين كافة أفراد المجتمع لأنهم كلهم عباد الله إخواناً فلا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله..
إننا في عصر تتراجع فيه الأيديولوجيا ويسود فيه الطابع المدني على كافة جوانب الحياة وهذه الطبيعة تفرض علينا أن نبحث عن مدخل مدني لخطابنا الديني، ولو أن المجتمعين في حوارات الأديان بحثوا في كيفية إرساء العدل والدفاع عن المظلومين في كافة أرجاء الأرض، والمطالبة بتوزيع الثروات على الفقراء ومحاربة الظلم والاستبداد والجهل والفقر لكانوا أكثر قرباً من الناس، بل وأكثر قرباً من تحقيق غايات الدين..
إن هدف الدين الأهم هو هدف مدني وهو إقامة القسط بين الناس، والقسط هو العدل:quot; لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِquot;
والله أعلم..
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات