في الآونة الأخيرة، وبعد الإفاقة من الحلم الرّومنسيّالجميل للثّورات العربيّة، على قرقعة نتائج الانتخابات في تونس ومصر والتي أبرزت نجاحات ساحقة للإسلامّين، بدأ المفكّرون والصّحافيّون يطرحون الأسئلة ويحاولون الإجابة عن هذا المدّ الإسلاميّ الذي أسقط سقف توقّعاتهم المرتفع على رؤوس أمانيهم الموغلة في السّذاجة، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ الثّورات العربيّة سوف تنقل هذه البلدان إلى مصافّ الشّعوب المتحضرة، وأنّ الطّريق إلى جنّة التّمدّن ما كان يعوقه غير أساطين الطّغيان الذين سقطوا الواحد بعد الآخر نتيجة لهذه الثّورات.

هذه الأماني التي سيطرت على النّخب العربيّة كشفت إلى حدّ بعيد عن العقلية السّحريّة التي لا تزال تقبع في عقولها ولم تتجاوزها لافتقارها إلى العقليّة النّقديّة الصّارمة. لذلك نرى أنّ الإجابات التي تطالعنا بها الصّحفالعربيّة على سؤال quot;كيف استطاع الإسلاميّون أن يحصدوا هذه النّتائج المذهلة في عمليّة انتخابيّة نزيهة وشفّافة في مجملهاquot; مازالت محمّلة بخيبات الأمل الذّاتيّة لهذه النّخب، ولا ترقى إلى الموضوعيّة المطلوبة في تفسيرها لهذهالسّياسيّة والاجتماعيّة. فمنهم من يعزو ذلك إلى تآمر الغرب مع الأحزاب الإسلاميّة لتمكينها من حكم هذه المجتمعات وضبطها، ومنهم من يرجع هذا النّجاح إلى قدرة الأحزاب الإسلاميّة على حشد التّأييد الجماهيريّ بسبب قدم هذه التّنظيمات وتجذّرها في النسيج الاجتماعيّ في مقابل نعومة أظفار الأحزاب الحداثيّة التي لم تنطلق إلاّ بعد نجاح هذه الثّورات وسقوط الدّكتاتوريّة، ومنهم من يعزو ذلك إلى التّمويل التي حظيت به هذه الأحزاب من قبل لاعبين إقليميّين يرون في هذه الثّورات خطرا على أنظمتهم، ومن ثمّة بادروا إلى احتوائها عن طريق تغليب كفّة هذه الأحزاب الإسلاميّة على ما عداها.

قد تكون كلّ هذه الأسباب تضافرت من أجل انتصار المدّ الإسلاميّ. ولكنّها تبقى روافد للسّبب الرّئيسيّ الذي مكّن هذه الأحزاب من الفوزالسّاحق. إنّ السّبب الأساسيّ هو من الوضوح إلى درجة تجعل المحلّلين لا يلتفتون إليه، وكأنّه أمر طبيعيّ أو مسلّمة لا تحتاج إلى البرهان. إنّ نجاحات الأحزاب الإخوانيّة والسّلفيّة في مجتمعاتنا نابع من سبب واحد رئيسيّ هو قدامة هذهالمجتمعات.

إنّ المجتمعات العربيّة هي مجتمعات قدامة بامتياز. لمتدخل الحداثة بعد. وإنّ ما يتناسب مع أفكارها وعقائدها هي هذه الأحزاب الإسلاميّة التي تعبّر عن مكنون هذه المجتمعات وترفع الشّعارات التي ترتكز إلى موروثاتها المقدّسة. لذلك اعتقدت النّخب أنّ مجرّد إجراء انتخابات شفّافة ونزيهة كفيل بتحقيق الدّمقراطيّة.

إنّ الدّيمقراطيّة والحرّيّة وحقوق الإنسان ومدنيّة الدّولة مفاهيم حداثيّة أنجزتها المجتمعات الغربيّة بعد قرون من الثّورات الفكريّةابتداء من عصر النّهضة، وانتهاء بعصر الأنوار مرورا بحركة الإصلاح الدّينيّة. إنّ الغرب الذي يتمتّع بهذه الإنجازات قد أعمل القطيعة المعرفيّة مع أفكار العصرالوسيط وفلسفته في نظرته لنفسه وللآخر والعالم. فقد وأد عبادة الأسلاف إلى غيررجعة، وامتلك ناصية أمره في السّياسة والاقتصاد والعلوم بالتّشبّث بالعقل. كماأعمل غربال النّقد في تراثه وموروثاته الأسطوريّة. أمّا مجتمعاتنا العربيّة، فهي لا تزال في تلك الحقبة من التّاريخ تمتطي عربة الزّمان لا لسبر أغواره، واستنطاق مخزوناته، وفصل الأسطورة من الحقيقة، بل للعيش في ذلك الماضي المجيد، أي بمعنى آخر، نحن مجتمع وضع عينيه خلف رأسه وحاول أن يمضي إلى الأمام.

إنّ الحقبة التّاريخيّة التي تمجّدها مجتمعاتنا وتحاول استرجاعها وإعادة إنتاجها في الحاضر، وبناء مجتمع يخضع إلى مقولاتها وفلسفتها هي حقبة لم تكن تعرف الحرّيّة أو الدّيمقراطيّة أو الدّولة المدنيّة أو حقوق الإنسان. وما كان عيبا أن لا تعرفها، باعتبارها منجزا حداثيّا لا يعرفه العالم القديم، وظلممنّا لتاريخنا أن نعمل المقاييس الحديثة لمحاكمته وإصدار الأحكام الجائرة عليه. لذلك، ومادامت هذه المجتمعات تؤمن بأفكارها الموروثة وتريد أن تكرّسها في حاضرها، فتكون نتائج هذه الانتخابات منطقيّة، لأنّها تعبّر عن آمال وطموحات هذه المجتمعات.

إنّ الثّورات العربيّة قامت ضدّ الطّغيان والظّلم والفساد، وإذا استثنينا النّخب التي تكاد لا تعرف شعوبها، فهي لا تعرف حتّى معنى الشّعارات التي ترفعها. فالدّيمقراطيّة ليست انتخابات نزيهة، وإنّما هي آليّة للدّيمقراطيّة وليست الدّيمقراطيّة كما تفهمها شعوبنا. والحرّيّة شعار يرفع في التّظاهرات الجماهيريّة، ولكنّه يبقى شعارا فضفاضا، لأنّك عندما تدخل في تفاصيل الحرّية تصطدم بمعتقدات هذه الجماهير. فهي لا تؤمن بحريّة العقيدة، كما لا تؤمن بحرّيّة المرأة، او حرّيّة المختلف الأتنيّ أو الدّينيّ على سبيل المثال.

ويمكن أن يقول قائل: كيف لي أن أدّعي أنّ العرب لميدخلوا الحداثة بعد، ولديهم كلّ ما وصلت إليه التّقنية والصّناعة؟ وهنا أودّ أنأوضّح أنّني أودّ التّكلّم عن المعطى الثّقافيّ للحداثة، لا المعطى المادّيّ لها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ العرب حتّى على المستوى المادّيّ من الحداثة لايسهمون في صنع شيء منها، بل يستهلكون منتجاتها فقط. وحتّى لو قيّض لهم يوما أن يسهموا في جانبها المادّيّ، فهذا لا يغيّر شيئا على الإطلاق، لأنّ الدّخول إلى الحداثة لا يكون من المنتج المادّيّ إن لم تهضم الفلسفة التي وراء هذا الإنتاج.

وقد يعترض معترض على ما أسلفت بسؤال مشروع: ولماذا نغمض العين على منجزات العرب في أخذهم بالدّساتير الحديثة في دول الاستقلال، والتي كرّست المبادئ الأساسيّة للحداثة في متنها، مثل فصل السّلطات، والكثير من حقوق الإنسان الكونيّة؟ نردّ على ذلك أنّ النّخب المستغربة التي أنتجت هذه الدّساتير ما كانت تعبّر إلاّ على نفسها، وغلّفت بقشرة الحداثة مضمون القدامة في داخلها. وهذا كان واضحا في تأييد هذه الشّعوب للانقلابات العسكريّة التي عصفت بهذه الأنظمة ودساتيرها، وتصفيقها للدّكتاتوريّات عندما تأسّست.

وختاما أودّ أن أوضّح أمرين : الأمر الأوّل هو أنّ هذه الثّورات رغم أنّها لم تف باستحقاقات شعاراتها الفضفاضة، فإنّها خطوة إلى الأمام. فأيّ حاكم عربيّ بعد اليوم سوف يحسب حساب الشّعوب التي ما عادت كتلا بشريّة صامتة، وإنّما أصبح في مقدورها إسقاط الأنظمة إذا بالغت في الطّغيان والفساد. والأمر الثّانيهو أنّ معركة الأجيال القادمة سوف تكون معركة فكريّة من أجل إعمال القطيعة المعرفيّة مع الماضي، وتبيان أنّه بالعقل وحده يمكن الخروج من التّخلّف وتكريس الغلبة والإقصاء والعنف إلى مجتمعات متقدّمة يسودها القانون والحقّ والعدل والتّسامح.

من هنا يبرز دور النّخب العربيّة في طور ما بعدالثّورات. فبعد أن تكفكف دموعها وتجتاز خيباتها عليها أن تشتغل على بناء مجتمعاتها وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.