عندما اِستلَّ المُستضعَفون في تونس سَيْفَ غضبهم وسخطهم على نظامquot;بن عليquot;من غِمْده الذي توارى طويلا وراء القمع والخوف، و عندما انتشروا في الشوارع شمالَ البلاد وجنوبَها، كانت مطالبهم الأساسيّة المساواة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة.وكانت شعاراتهم quot;التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاقquot; وquot;عدالة حريّة كرامة وطنيّةquot;.وقد تبيّن للمتابعين في الداخل والخارج، أنّ هذه الهبّة الشعبيّة التونسيّة كانت، في اشتعالها وتأجّجها، عفويّة بلا تأطير، أو تسطير من الأحزاب التي استيقظت متأخّرة لتركب الموجة، ولتلحق بالأحداث التي تجاوزنها.وعندما كانت بعض الأطراف السياسيّة تتوارى وراء صمتها، وتتخفّى وراء استراتيجيات الانتظار، كانت الفئات المهمّشة التي عانت طويلا من الاحتقار والتهميش تسير نحو حتفها هازئة بالموت، وبرصاصه الغادر.ولم تنتظر أن يظهر سياسيّ شجاع ليقود المعركة السياسيّة ضد النظام.
لكن ما أن خلت الساحة من اللاعبين السياسيين القدامى، بعد فرار زعيمهم الذي قفز من المركب قبل أن يغرق، حتّى اصطفّت عديد الأحزاب في الساحة السياسيّة الفارغة لتتنافس على الفوز بغنيمة الثورة، وادّعاء أبوّة هذا الحراك الاجتماعيّ الذي أتى غلى أحد أعتى الأنظمة الديكتاتوريّة العربيّة.
إنّه لَمِنَ التجنّي على التاريخ، والكذب السياسيّ أن يحتكر طرف النضال، وأن يشرع في عمليّة تقييم للآخرين، واتهامهم بالعمالة للنّظام السابق وكأنّه كان الوحيد الذي ملأ الساحات، وقاد النضالات.على أنّه ظهرت في المشهد السياسي أطراف تُوهِمُ، عبر خطابها الزئبقيّ، بأنّها الوحيدة التي قادت الثورة، وتزعّمت معركة الحريّة.ولم يعد غريبا على التونسي أن يُشاهد تيارات سياسيّة تتصارع على الهواء مباشرة مدّعية أن quot;جُرْعَةَquot; نضالها كانت أكبر من غيرها رغم أنّ بعض التحاليل الموضوعيّة تثبت أن هذه الأطراف تعيش quot;حَمْلا سياسيّا كاذباquot;. فهل كانquot;محمّد البوعزيزيquot; يُعْلِن عن انتمائه السياسيّ عندما كتب نصّه بجسده؟هل احترق من أجل مجلس تأسيسيّ يتصارع فيه النوّاب أم من أجل خبز يأكله، و عدالة اجتماعيّة تنصفه، وتنصف شبّانا تاهوا بين دروب الحيف والظلم رغم حصولهم على شهائد جامعيّة؟؟
إنّ أكبر جريمة ترتكبها بعض الأحزاب السياسيّة، على اختلاف مشاربها الأيديولوجيّة والعقائديّة، في تونس اليوم هي أن تُقْدِمَ بكلّ فجاجة على تزييف التاريخ عبر ادّعاء أبوّة ثورة لم تصنعها بل اكتفت بمتابعتها وهي تتأجّج في الشارع، فسعت إلى استثمارها.وتثبت الوقائع أنّه عندما كانت الجموع الشعبية تتدافع للثورة على النظام القمعي الذي أخرس الألسن على مدى 23سنة، كان كثير من الزعماء السياسيين ينتظرون سقوط quot;بن عليquot; ليعودوا إلى البلاد.ولم يدخلوها إلّا بعد أن اطمأنّوا إلى أنّه غادر دون رجعة. فهل أشعلوا الثورة عن بُعْد بالرموت كنترولquot;؟؟
وإذا كان من حق كلّ الأحزاب السياسيّة أن تقدّم مشاريعها لبناء تونس الجديدة، وفتح طريق الحوكمة الرشيدة، فإنّه من غير المقبول أخلاقيّا وسياسيّا أن يحتكر طرف الثورة، وأن يدّعي زورا وبهتانا ما ليس له.
ومن اللافت أنّ عناوين الثورة بدأت، في غفلة مِنْ السواد الأعظم، تتغيّر بعد أن احتدم الصراع بين الأطياف السياسيّة.ووجد التونسي الذي ثار على الظلم والجوع نفسه مُساقا إلى معركة quot;الهويّةquot; التي تفوق مستوى وعيه وإدراكه، ولم يضعها نصب عينيه عندما أشعل شرارة الغضب. فهل كان هذا الشعب حقّا تائها عن عروبته وإسلامه ولم يجدهما إلا بعد الثورة؟
إنّ ذلك الذي رفعquot;خبزهquot; في وجه مَدافع quot;بن عليquot; كان يدافع عن قوته، وعن قوت أبنائه. ولم يدر بخَلَده أن يزّج به السياسيون في أتّون معركةquot;الهويّةquot;، وأن يتصارعوا على ما يفوق ز أحلامه البسيطة التي لا تتجاوز العيش بكرامة يضمنها شغل.لذلك من الغريب أن تتحوّلquot;الثورةquot; من حرب على الفقر والتمييز والتهميش إلى معاركquot;دونكيشوتيّةquot; لا تعني من احترق فعلا بنار هذه الهبّة الشعبيّة وقدّم ضحاياه.فهل يصح القول، بإزاء ما يجري، إنّ السياسيين في واد والبسطاء في واد آخر؟؟. لم يخرج فقراء تونس ليقولوا لمن جوّعهم طويلاquot;إنّنا عرب مسلمونquot;.لقد خرجوا يحملون أكفانهم على أكتافهم من أجل توزيع عادل للثروات.وهم لا يريدون من السياسيّ إلّا أن يعبّر عن طموحاتهم وأحلامهم بعيدا عن المعارك الحزبيّة الضيّقة التي قسمت البلاد إلى أغلبيّة وأقليّة والحال أنّ الفقر يطال الأغلبيّة ، ونسبة النموّ لم تصل إلى 1% !!
إن الخوض في مسألة الهويّة في هذا التوقيت بالذات بتونس ما بعد 14 جانفي طرح سيئ، وخروج عن مطالب معيشية أساسية ثار من أجلها المواطن الذي عاني طويلا.وإذا تواصل البؤس سيتساءل المواطن بلا شكّ عن الفرق بين أن يجوع إنسان في ظلّ نظام ديكتاتوري أو أن يجوع في ظلّ نظام ديمقراطيّ!!
ما على الأطراف السياسية التي تلعب لعبتها القذرة أحيانا إلّا أن تضع نصب أعينها -وهي تحاول توظيف الثورة لخدمة مشروعها السياسيّ- أن هذا الشعب لم يخرج من أجل الاستفتاء على عروبته أو إسلامه، بل من أجل استقصاء طريق الخبز والحريّة والكرامة.و الأكيد أنّه إذا ما تواصل بعض هذا الخلط قد يوجّه غضبه نحو السياسيين ليردّد على مسامعهم بصوت عال ما قاله quot;غانديquot;quot;قليلون حول السلطة قليلون حول الوطنquot;
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات