في زمن المُخاتلات والمراوغات السياسيّة والإعلاميّة الذي نعيش فصولا مُرعبة منه، مِنَ الأكيد أنّه ليس كلّ ما يُقال على المنابر الإعلاميّة حقيقة، وليست كلّ حقيقة، في عالم السياسة، يُراد لها أن تصل إلى العموم أو أن يصل إليها الإعلام. إذ للظروف القاهرة محاذير، وللمُراهنات السياسيّة من جانب الحكومة أو من المعارضة، أحكام يتعارض فيها القول المعدّ للاستهلاك المحلّي والخارجيّ مع الفعل المرتهن بالعجز في الغالب. ويبدو أنّ الأحداث المُتواترة وما صاحبها من منافحات ومناظرات ببيزنطيّة-هنا وهناك- ما تنفكّ تتساقط تباعا فلا تلبث أن تُصيب متابعها بدُوار يكاد يفقده البوصلة السياسيّة التي يزعم امتلاكها.
مِنَ المعلوم أنّ الفرقاء في تونس ما بعد الديكتاتوريّة - على اختلاف المشارب السياسيّة والعقائديّة- قد تَنادوا إلى تركيز أرضيّة quot;الحَوْكمة الرشيدةquot; التي تقطع مع الماضي الأسود، وتقضي بأن يُبْنى النظام السياسيّ المنبثق عن الثورة، على حكومة تحكم وتسيّر، وعلى معارضة تراقب وتُجادل، و على نائب يحسم باعتباره منتخبا من الشعب. إذ لا سلطة، في النظم الديمقراطية، تعلو على سلطة الشعب. و إلى جانب الحكومة والمعارضة ونواب الشعب، من الضروريّ أن ينشأ إعلام يمثّل quot;سلطة رابعةquot;تقف على نفس المسافة من الحكومة والمعارضة شعارها كشف الحقائق كما هِيَ دون تأويل أو استغلال سياسيّ، وغايتها تنوير المواطن ودعم دولة القانون والحقوق. فهل الإعلام فيما تبغي النخب السياسيّة نحته وإعداده للمستقبل، جزء من الحلّ أم هو المشكل كلّه؟؟
في الحقيقة لا يستقيم الحديث عن دولة ديمقراطية في غياب إعلام حرّ ونزيه. و لا أحد من الأطراف السياسيّة يمينا أو يسارا يمكن أن يُجادل هذه المُصادرة، أو أن يجعلها موضوع نقاش. لذلك من الغريب أن يُردَّ ما تعيشه البلاد مِنْ فوضى، وما يعرفه عمل الحكومة مِنْ تردّد، ومِنْ غياب الوضوح في المقاصد والغايات، ومِنْ بروز ظواهر اجتماعيّة ودينيّة غير مألوفة إلى الإعلام الذي يكشف بالصورة، والتحليل ما يجري على أرض الواقع!!.
وقد تواتر في خطاب كثير من الوزراء اتهام صريح للإعلام بأنّه يحوي مجموعة من المتآمرين على أمن البلاد، والمحرّضين على الفتنة بتشويه الحقائق، وتضخيم بعض الأحداث. وكان من الحكمة، وحسن التدبير أن يقدّم هؤلاء ما يفيد أنّ الإعلام يتربّص بالحكومة، وبمبادراتها، وأن يكشفوا المتورّطين في هذا الصّنيع الذي لا يفيد البلاد، ولا يطمئن العباد. وَوَازى الاتهام حديث عن واجب quot;تطهير الإعلامquot; في إشارة واضحة إلى أنّ علامات الوسخ مازالت عالقة بهذا القطاع رغم مرور سنة على سقوط نظام quot;بن عليquot; !!
من المعلوم أنّ الذي يرفع شعار التطهير يورّط نفسه أوّلا من حيث لا يدري لأنّ مَنْ يأنس في نفسه الكفاءة للتطهير عليه أن يثبت طهارته ليوزّع فوائضها على الآخرين. على أنّ الاستغراب يزداد عندما يردّد بعض الذين يسبون الإعلام، ويحرّضون الناس عليه بأنّهم quot;لا يفتحون الصحف التونسيّة المأجورةquot; !! ولا يشاهدون التلفاز الذي حافظ على رقم7. فكيف يحكمون سلبا أو إيجابا على إعلام يفتخرون بأنّهم لا يريدون النزول إلى مستوى متابعته ؟؟أليس من التناقض أن يصدر عن هؤلاء حكم عامّ دون أن يكون نتيجة متابعة دقيقة؟؟
وفات مَنْ هم في السلطة الآن أنّ محاولة الضغط على وسائل الإعلام لن تكون في صالحهم مستقبلا عندما تتغيّر المُعطيات ويتحوّلون إلى صفّ المعارضة كما يحدث غالبا في التجارب الديمقراطية. عندها سيعوّلون على أن يكون الإعلام في أحسن حال ليؤدّي واجبه كما ينبغي منعا للاستبداد، والاستفراد بالحكم.
إنّ بعض مضارّ الديمقراطية التي يمكن تجاوزها بعامل الوقت واكتساب الخيرة، أفضل من كلّ حسنات الديكتاتورية. وإذا عاد الإعلام إلى مقولاته القديمة في المتابعة والتعليق على الأخبار تحوّلت البلاد إلى فضاء خصب لميلاد ديكتاتورية جديدة. وهو ما لا يريده أحد.
ومن الواضح أنّ الإعلام في تونس يشكو من نواقص. ولا يمكن للخبراء والمهنيين أن ينكروا ما أصابه من وهن نتيجة العنف الممنهج المسلّط على كلّ المؤسسات الإعلاميّة. لكن عوض اعتماد لغة التخوين والتهديد المبطّن، من الضروريّ التعجيل بالنظر في تحسين طرق تكوين الإعلاميين التي يبدو أن مراجعتها أمست متأكّدة في ظل المتغيرات الدوليّة. وإذا ما أقدمت الحكومة بمعيّة أهل المهنة على وضع آليات دعم لطرق التكوين، ولحسن سير العمل داخل المؤسسات الصحفيّة، فسيسجّل ذلك في ميزان حسناتها. وعندها لن نستمع إلى حكومة تشكو إعلاما يناصبها العداء، ولن يردّد أهل المهنة أنّ صدر الحكومة قد ضاق بالحرية. ولا أحد يمكن أن يأمل خيرا من محاولة تطهير الإعلام وتطويره عبر آليات قديمة تسعى إلى تلجيمه وإخضاعه لضوابط غير أخلاقيات المهنة المتعارف عليها دوليّا.
إنّ الإعلام لا يمكن أن يتحوّل إلى ألغام مَعدّة للانفجار في طريق الحكومة أو المعارضة. وهو معنيّ بالشأن العام يتابعه بالتحليل والنقاش دون أن يتحوّل إلى عون من الأعوان يسبّح بحمد السلطان.
[email protected]