أمّة الأحلام المتشظّية على قارعة الزمن، والشِّعر المتراكم فوق كثبان الخيال،تطرب بلا سبب وتبكي بلا موعد.موجوعة بالفرح المؤجّل،والخيال المجنّح الذي حوّلها إلى أضحوكة في مجاهل التاريخ والسياسة.مدفوعة إلى حتفها بما ورثته من حكايات جميلة وأساطير تنشر الحبّ و الفضيلة وتعزّز الأمنيات بأنّ ترى الظلم ينجلي والقيد ينكسر بلا رجعة.
تواصلا مع أفيون الأحلام الذي لا سبيل للانقطاع عن إدمانه، استبشر كثير من بسطاء quot;إفريقياquot; المسكينة،وعدد غير قليل من أمة الشرق اليتيمة بخبر وصول quot;أوباماquot; الأسود إلى البيت الأبيض. وذرفوا دموع الفرح شمالا وجنويا. واعتبروا تنصيبه رئيسا على أكبر دولة في العالم، يوما مشهودا اقتصّ فيها المساكين السود ممّن عذّبهم طويلا.واشتغلت طواحين الرياح لترسم دوائر من الهواء تصوّر quot; أوباماquot; المُبارك بطلا خرج من قمقم الفقر ليعتلي عرش أمريكا التي ملئت جورا. وعادت إلى الأذهان صورة الزعيم الأمريكيquot;مارتن لوثر كينغquot; الذي اغتيل بسبب مطالبته بالمساواة بين السود والبيض في مجتمع تتسّم قوانينه بالعنصريّة المقيتة.
والتقط quot;ملك ملوك إفريقياquot; الحدث ليؤّله تأويلا سياسيّا خاصّا به يربح أياما أخرى على عرش بناه بالجماجم.. وكم كانت فرحته عارمة وهو يلتقيه ويصافحه بحرارة منتظرا علاقات جديدة بين الغرب والشرق تحكمها الرحمة والقيم النبيلة التي قد يكون quot;أوباماquot; حمل بعضا منها عبر جدّته الإفريقيّة.ومع quot;أوباماquot; المقتحم للبيت الأبيض بقوّة حلم السّود في العالم-حاكمين ومحكومين- بأن ينصفهم التاريخ بعد أن أقصاهم طويلا..
لكن إن هي إلّا أيّام معدودات وانكشفت بعدها الحقيقة المُرّة. وتبدّى ما تخفّى وراء الأوهام والخيال المجنّح...إنّ أوياما quot;الإفريقيquot;! لم يأت من أجل بسطاء رفعوا أكفّ التضرّع شكرا للخالق على هذا quot;الرسول quot; الجديد...quot;أوباماquot; مسحوق أمريكي جيء به ليجمّل تجاعيد الديمقراطية التي ارتسمت على وجوه الأمريكان بعد فضائح المستنقع العراقيّ، وشوّهت صورة الدولة الحامية لحقوق الإنسان...لم يرتق وعي البسطاء للتفطّن إلى أنّ quot;أوباماquot; القادم من وراء انكشاف عورة quot;بوشquot; والنظام الرأسماليّ، كان quot;تياساquot; أريد به تجميل وجه أمريكا الذي أُصيب برضوض ديمقراطية نتيجة تصرفات جيشه الإنساني الذي جاء إلى العراق ليحررها من الديكتاتورية!!...
ومن الغريب أنّ هؤلاء الذين حلموا مع quot;أوباماquot; نسوا أنّ العراق نُسف تحت إشراف quot;كولن باولquot; وأنّ غزّة تعرّضت إلى quot;هولوكوستquot; جديد بتعليمات عليا من quot;كونداليزا رايسquot;.في أمريكا المتلوّنة أعراقا وأجناسا،الألوان هي مجرّد لوحة فسيفسائيّة لسياسة تحكمها ضوابط استراتيجيّة،وإكراهات جيو-سياسيّة تظلّ فوق الأشخاص والألوان والأديان.أمريكا-أيّها البسطاء الحالمون- لا تؤمن بالصدفة، ولا تستجيب لأحلام الواهمين على شطآن الانتظار.وما quot;أوباماquot; الذي هلّل لقدومه المتفائلون على الدوام وأيتام الفضيلة السياسيّة إلّا وجه آخر لبوش وبيل كلينتون...لقد قضت حكمة الأمريكان بأنّ الرجال يتعاقبون ويتلوّنون لكنّ السياسة واحدة مادامت خاضعة لمنطق المصلحة العليا للبلاد.والبرامج التي توضع تُنفَّذ على مراحل وما المتعاقبون إلا أدوات تنفيذ لسياسات حدّدتها مصالح رأسماليّة متوحشة.


إنّ quot;أوباماquot; كغيره من الرؤساء أداة تنفيذيّة بيد سوق ماليّة ضخمة تتوارى وراء مكاتب زعماء السياسة وتوظّفهم لخدمة مصالحها مقابل بهرج إعلامي كبير وحراسة ميكيافلّية توهم الرئيس بأنّه مالك البلاد والعباد ليكتشف بعد سنوات أنّه كالقابض على الماء بالأصابع تتلاعب به الأجهزة وتحوّله إلى آلة تنفيذ. الرئيس الأمريكي -كيفما كان لونه- هو في النهاية واجهة سياسية لرأسمال متوحّش يتجمّل ويتلوّن لكنّه يظل محافظا على صورته التي لا تنجح المساحيق في محوها. وهو رئيس لا حول له ولا قوّة..هو مجرّد رقم في معادلة اقتصاديّة أكبر منه.. مفاتيحها السرية عند quot;بيل غيتسquot; وquot;موردوخquot; وغيرهما من أصحاب الأموال العابرة للقارات والمحيطات...quot;أوباماquot; الإفريقي السعيد بأيّامه في البيت الأبيض لا وقت لديه ليستمع إلى حكايات جدّته التي تجري في عفويتها مع أنهار إفريقية العطشى للحبّ والفضيلة والسلام.. وليس له إلّا أن يستمع للحظات مع ابنتيه وكلبتهما وزوجته إلى حين مغادرته المكان. وليس غريبا ndash;إن فشل أوباما في تلميع الصورة-أن يؤتى بأحد أحفاد الهنود الحمر الذين شُرِّدوا كي يواصل مسرحيّة تكافؤ الفرص داخل المجتمع الأمريكي والمساواة بين الألوان.
لكن رغم هذه الحقيقة الثابتة،مازال كثير من أمّة الشرق يعتقدون في ظهور quot;زعيمquot; منتظر يهدي الناس إلى الخير ويحقق العدل في أرض ملئت جورا وظلما.ومازال النائمون على أحلام عذبة ينتظرون أن يأتي من الغرب زعيم يعيد الأمور إلى نصابها و يصحّح أخطاء أجداده.وفات هؤلاء أنّ لون quot;أوباماquot; لا يكفي لتتجمّل أمريكا،ولتغسل ذنوبها من أدران الماضي في نهر quot;الميسيسيبيquot; حتى تتأقلم مع أساطير الشرق الحالمة والحكايات الإفريقيّة الساذجة.