ما أن تتبدّى ملامح الانفراج السياسيّ والأمنيّ في تونس مِن وراء السّحب السياسيّة المغيّمة بالتشنّج، وتصيّد كلّ طرف سياسيّ للآخر، وما أن يُخيّل إلى المواطن الذي ملّ كلام السياسيين المحنّط بالكذب والنفاق، أنّ الحياة بدأت تستعيد بهجتها حتى ينجم حادث يعيد حوار الصمّ بين الفرقاء إلى مَداره الأوّل، ويعزّز القناعة بأنّ البلاد انزلقت إلى طريق الفوضى والانفلات دون رجعة في ظلّ غياب الحكمة و زوال قواعد التعايش السلمي بين الأطياف السياسيّة المتصارعة.
ولعلّ ما جرى في كليّة الآداب بمنوبة في quot;تونسquot; مؤخرا يثبت أنّ رسم خارطة طريق حياة سياسيّة تقوم على قواعد اللعبة الديمقراطية الصلبة مازال يتعثّر. فقد أقدم طالب quot;سلفيّquot; على نزع العلم التونسي المثبّت في مدخل الكلّيّة ورميه، ووضع بديلا عنه راية كبيرة سوداء كثيرا ما رفعها السلفيون بتونس في مختلف التظاهرات والمظاهرات التي عبّروا بها عن وجودهم في المشهد السياسي التونسيّ بعد 14جانفي. ولم يكتف بهذا الصنيع بل عمد إلى دفع طالبة تحرّكت للدفاع عن العَلَم، و إسقاطها أرضا على مرأى ومسمع من زملائها الطلبة!!.
إنّ هذا الحدث الذي عَدَّه بعض من هم في السلطة معزولا وخاليا من أيّ دلالة سياسيّة، واعتبره آخرون معارضون إهانة لرمز الدولة والجمهورية، واستخفافا سافرا بدماء شهداء سالت تحت راية هذا العلم الذي وحّد التونسيين وفجّر ثورتهم، قد هيّج من جديد في تونس الثورة بركان الأسئلة حول quot;الهُويّةquot;، وشروط التعايش السياسيّ، وقواعد اللعبة الديمقراطية التي تتشدّق مختلف الأطياف السياسيّة بضرورة احترامها.
ولا خلاف فيما ظهر من مواقف، حول بشاعة ما ارتكبه الطالب. لكن الغريب هو تأخّر الحلّ الرّدعي لإيقاف نزيف مثل هذه الاعتداءات التي بدأت تستهدف رموزا وأشخاصا. والأغرب هو محاولة بعض مَنْ ينتمي إلى التيار السلفي أو يتعاطف معه، تبرير ما حدث بشواهد وأدلّة تبعث على الحيرة والاندهاش أكثر مما تحقّق الطمأنينة بأنّ هذا التيّار يريد أن يخضع إلى قواعد البناء الديمقراطي، وما يفرضه من تعايش بين مختلف المكوّنات السياسيّة للبلاد بعيدا عن لغة التخوين والتكفير!! . فإذا كان العَلَمُ مجرّد خرقة لا معنى لها على حدّ قول صاحب الفعلة ومَنْ ناصره، فلماذا قام بإبدال هذه quot;الخرقةquot; الحمراء بأخرى سوداء؟ أليست كلّ الخرق -بهذا المنطق- فاقدة للمعاني والرموز ؟ فلِمَ تثبيت الراية السوداء وإنزال الراية الحمراء!!؟
يبدو أنّ حزب حركة quot;النهضةquot; الحاكم لا يريد أن يتورّط في اتخاذ حلول ردعيّة ضدّ ما يأتيه هؤلاء الغُلاة المتشدّدون، تكون لها انعكاسات سلبيّة على صناديق الاقتراع في المحطة الانتخابيّة القادمة. وهو في المقابل يُدرك أنّ المعارضة تنتظر زلّة في التعاطي مع ما يجري، كي تمسكها حجّة على تساهل الحركة مع quot;السلفيينquot; خاصّة بعد أن قامت مجموعة منهم برفع السلاح في وجه الجيش التونسي الذي يشترك الفاعلون السياسيون في تونس في اعتباره حامي quot;الثورةquot;، وحامي quot;الجمهوريةquot; في أحلك الفترات التي مرّت بها البلاد.
لكنّ التساهل مع كل مَنْ تسوّل له نفسه استهداف مؤسسات الدولة، واستباحتها، والاعتداء على العلم الموحّد للتونسيين على اختلاف مشاربهم الفكريّة من شأنه أن يشجّع آخرين على استضعاف الدولة والاستهانة بمؤسساتها.و ما حدث في quot;كليّة الآداب بمنوبةquot;، وما يجري أمام مقرّ التلفزيون يؤكّدان ضرورة التدخّل القضائيّ الحازم والرادع كي يكون القانون هو الفيْصل في النزاعات، والمطالبة بالحقوق.ويتّضح جليّا أنّ الحكومة بتردّدها قد جعلت خصومها يشكّكون في صدق نواياها وفي جدّيتها، ويرجّحون عجزها عن اتخاذ مواقف صارمة تجاه هذا الذي خوّل له سوء فهمه للحريّة بأن يعتدي على حقوق الآخرين، وعلى مشاعرهم .فهل أمست هذه الحكومة مقيّدة وتائهة بين ضرورة اتخاذ موقف واضح وصريح ممّا يجري يُمليه واجب مسكها بدواليب الحكم، وبين التفكير في المستقبل السياسيّ الذي تحكمه الانتخابات القادمة!! ؟هل تخشى النهضة من انقلاب بعض المتعاطفين معها إذا ما أقدمت على فرض سيادة القانون؟؟ ومتى تحسم على أيّ الجنبيْن تريد أن تستريح؟؟ هل يعقل أن يقع الزجّ بصاحب جريدة في السجن بسبب نشر صورة بَدَت في تقدير البعض صادمة، ويبقى مَنْ اعتدى على الصحافيين مادّيّا ولفظيّا، واستباح حرمة العَلَم ورمزيته حرّا طليقا يستمع بسعة الصدر وعدم الرغبة في مواجهة هذا التيار المتشدّد.؟؟ أليس من حقّ كلّ تونسيّ أن يسأل أين كان هؤلاء عندما كانت الجماهير تزحف من مختلف الجهات لإسقاط الديكتاتوريّة ومقاومتها وهي في أشدّ عتوّها وقوّتها؟؟.
لم يبق من حلّ لكلّ هذه الظواهر المُسْتَحدَثة إلّا القانون الذي يجب أن يُضْبط وفق شروط تؤكّد دون مُواربة مدنيّة الدولة، وحمايتها لكلّ الأطياف ما التزمت بالقانون المنظّم للحياة السياسيّة التي تقوم على التساوي أمام القانون .إذ لا يمكن أن ينعم بخيرات الديمقراطية مَنْ يرفض هذه الكلمة ويعتبرها quot;بدعةquot; اختلقها quot;الكفّارquot;.
إنّ quot;سقطةquot; العلم تحثّ quot;النهضةquot; باعتبارها حزبا حاكما على أن تثبت للجميع أنصارا ومعارضين أنّها تمسك بزمام الأمور مستندة إلى القانون القضاء فيصلا في فرض الواجب والتمتّع بالحقوق.فهل تنهض الهمم بما أسقطته حادثة العلم؟
- آخر تحديث :
التعليقات