اختطفت عنوان المقال من كتاب قرأته مؤخرا بعنوان quot;قراءة لوليتا في طهرانquot;. وهو كتاب تتحدث فيه أستاذة جامعية للأدب في إيران quot;آذر نفيسيquot;، عن حكايتها وتجربتها مع سبعة من طالباتها، حين يجتمعن في فصل خاص وسري للقراءة الأدبية الحرة بعيداً عن أعين الرقيب، سواء رقيب الجامعة أو المجتمع أو سلطة النظام الشمولي للثورة الإسلامية. صفحات هذا الكتاب التي تأتي فيما يشبه السيرة، ترصد العلاقة بين الحياة والكتابة، وبين الواقع والمتخيّل.
لقد كان واقع الحياة في إيران مريراً بعد مجيئ الخميني إلى الحكم، فنظام الثورة الإسلامية كشف سريعاً عن طبيعته الاستبدادية التي ضيّقت على منافذ وطريقة الحياة الطبيعية في البلاد، فتحجمت خصوبة هذا البلد، وتولّد أمام الناس واقع اجتماعي وسياسي عصيب. لذا مثّل الأدب هنا ملاذاً وبوابة عبور متخيّلة ومطلوبة.. فتحت صفحات واقع مرير، نحن أحيانا بحاجة إلى الخيال أكثر من حاجتنا إلى الحقائق. الخيال استعلاء على هذا الواقع، نذهب إليه فنعود أقوى، ومن خلاله نمارس تقييم وإدراك هذا الواقع..
أهمية هذا الكتاب في نظري تتجلّى في مناقشة: ماذا لو أن صورتك في مجتمعك لا تنتج إلا عبر ذلك الآخر الذي يزدريك؟ لأنه المسيطر الذي يصنع ويروّج هذه الصور في المجتمع!.. بالتأكيد، ستختفي من عوالمك كفرد حين تسيطر نخب سياسية ودينية على المشهد، وليس لك سوى قبول عالمهم، كما خططوه وكما صنعوه. فماذا هو حالك لو أنك امرأة، فيلسوف، فنان، من طائفة أخرى، شخص عادي يرفض أدبياتهم.. الخ!؟. في هذا الكتاب تمر نفيسي وطالباتها على فكرة أن المشاكل الشخصية هي سياسية بطريقة أو أخر.. تستمر القراءات المتنوعة، ويبقى القلب حائراً دوماً بين إرادة المواجهة، ورغبة الهروب. تقول الكاتبة : quot;لقد أًصبح كل كتاب عظيم نقرأه يمثل تحدياً للأيدلوجيا التي تحكمنا. وأصبح يشكّل خطراً قائماً وتهديداً، لا بسبب ما يقوله العمل فحسب، بل وبحسب الكيفية التي يقول فيها ما يقوله..quot; (ص480).

* * *
هذا العالم حريّ به أن يولد ويتجدّد كما يتجدد شبابه وتولد أرواحه الجديدة. في الرياض العقول والقلوب النظيفة والمتجددة للكثير من الشباب من الجنسين، اختارت الكتاب والمعرفة، ليصبحا بوابتها وعنوانها إلى المستقبل. دلالة ذلك، ما يقوله بعض من أصحاب دور النشر العربية في أن معرض الرياض الدولي للكتاب قد أًصبح في آخر ثلاث سنوات أهم معرض عربي للكتاب، من ناحية رواج الكتب، ومن سقف الحرية العالي فيه أيضا. هذا الانفتاح والحركة لم يكونا سبباً لوجود القراءة بقدر ما أنهما نتيجة لها.
في هذا المعرض تجد الكتب تنفد تباعا، سواء لكتاب عرب أو أجانب.. باولو كويلهو أو أورهان باموق أو نيكوس كازنتزاكس. ليست مفارقة أن تنفد كتب كازنتزاكس في الرياض، كما لاحظت في معرض سابق. فهو صاحب مؤلفات أدبية بديعة مثل زوربا، وتقرير إلى غريكو، والحديقة الصخرية وغيرها. لقد كان هذا اليوناني، ابن جزر النور الكريتية الخضراء، يجمع أدواته: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل.. فينحت بها كلمات نور، تترجم دواخل روحه التي اتصلت بالأرض والبحر والمرأة والسماء..
كان كازنتزاكس، المتدين والنقي في شبابه، متمرداً، ولكن متمردا ناعما يركب ألوان الحروف فقط. كان يغسل الأفكار بدهشة جديدة كأنه ولد للتو، وكان محباً لأن يبقى مطلاً على هاوية الجبل ولو بركبٍ مرتجفة. يطيب له أن يحطم كل قسوة بجرأة وحش، ويبقى مع ذلك.. دوماً كما هو، أخو الفراشة وصديق الوردة، وابن ترنيمة الحياة الخالدة..
أعجبني في كازنتزاكس رغبته المستمرة في الصعود .. بعض الكتاب يقولون عن أنفسهم أنهم في بداية شبابهم وفي عشرينياتهم كانوا ثوريين، لكنهم بمرور الزمن أصبحوا حكماء وهادئين.. وهذا بالضبط يعني أنهم أناس بلا فرق، مستجيبين وملبين لمراحل النمو الاعتيادية!. كازنتزاكس كان العكس، بدأ حياته مسالماً هادئاً مطمئناً.. بدأ حياته كعجوز. ولكن مع تقدمه في السن أصبح شاباً ثائراً عاشقاً للأبطال، ومقلداً، وصانعاً لهم.. وهذا هو الكاتب، من يكسر المعادلة، وينمو بطريقته الخاصة.. من لا يزال يرتفع، ويترقّى، فيكفيه شرفاً أن تأتيه النهاية وهو يرتقي قمة مــــا.. على حد تعبير كازنتزاكس.

* * *
وكما أن الكاتب الحر يكسر المعادلات السائدة لديه أو لدى غيره، فكذلك القارئ الحر.. طبيعي أن يلجأ الإنسان للأدب والفن.. فهناك نقاط تَجمّد ووقوف في حياة الأفراد والأمم، لا يمكن تجاوزها والمرور من خلالها إلا عبر الفن والأدب. تفسد quot;الذائقةquot; في المجتمعات، نتيجة لأدبيات تقليدية، أو لمزاعم عقلانية مفرطة، أو عوائد وعلائق التصقت بالناس وكبّلت أرواحهم.. وهنا يأتي دور الفن والأدب ليمارسا تهذيب وإعادة صياغة هذه الذائقة، التي إن فسدت أفسدت كل شيء. فأي quot;مفهومquot; حين تلامسه ذائقة رديئة، ستقوم باستخلاص اسوأ ما فيه!. ستستمر في سكب الانطباعات والتفلسف لرأيها الرديء حوله في أدبيات لا تنتهي. هكذا نجد أن صور مفاهيم عظيمة تتبدل لدينا: فالحرية تصبح دمارا، والتغير نكسة، والفن خطيئة... الخ.
وكل ما تقدم الزمن وتغير الناس كلما ازدادت صراعاتهم واحتدت بسبب أن هذه الذهنية لاتزال مؤثرة. وقد نقلتنا من صدام مع المفاهيم إلى صدام مع أشياء طبيعية ومعتادة أصبحت مرفوضة لديهم اليوم.. كرفض مهرجان تراثي يقام من سنين طويلة، ورفض معرض الكتاب، كما عبرت البيانات التي كتبها رجال دين مؤخراً.
ومن يستغرب مثل هذا الكلام، أي يستغرب طلب حرية الفكر وتجدده، هو من عاش حياته وهو يشعر أن كل شيء في الحياة ولد مكتملاً، وأن المشاكل لها من يعرفها ومن يعمل عليها. وهو فقط يحيا دور المراقب والمنتظر!. المعرفة بالنسبة لهذا الشخص، هي أنه اكتسب القراءة والمعرفة التي تمكنه من معرفة ما يقول هؤلاء وما يفعلون. وبـquot;هؤلاءquot; أعني أولئك الذين يراقبهم ويتعلم منهم، لا لشيء إلا لأنهم أخبروه أنه يجب أن يعيش عبرهم، يرى عبر منظارهم، ويسمع ويتبع لأقوالهم.
هكذا، تولد معرفة الفرد لتتوقف وتموت، فقط يكتسبها ثم لا يضاف لها خلق ولا ابداع ولا تجدد. باعتبار أنها -حسب الثقافة السائدة- معرفة لا يُطلب منها التفاعل ولا الإضافة ولا التداخل مع ما هو قائم وسائد!. يشعر الفرد أن المعرفة بذلك ليست سوى بُنية مغلقة، لا تتقاطع مع حياته، ولا تتفاعل معها. لذا لا يوجد فائدة من قراءة كتاب جديد، ولا إضافة فكرة أو رفض أخرى، فهو كفرد غير مسؤول عن مثل هذا التغيير، وأي إضافة إلى نفسه لن تغير شيئا حقيقيا..
إن المعرفة الجامدة لا تتداخل مع المجتمع، بل هي معرفة تلقينية تولد لتنتهي. ونفس روّاد هذه المعرفة الجامدة هم من استاؤوا من وجود الحركة الحية والحيوية في معرض الكتاب. ثلاث من أهم دور النشر في المعرض الأخير من ناحية الإقبال، كانت تركز على إصدار الكتب الفكرية، وإحداها باعت بالآلاف إصدارات فكرية لسعوديين كان معظمهم شباب. أي أن الشاب السعودي حضر كقارئ وكاتب في هذا المعرض. ولذا يتركز الهجوم اليوم على الكتب الفكرية، بينما في السابق كان حديث الهجوم على المعرض يأتي من باب الأدب والروايات. الكتب الفكرية يكثر وصفها عبر الخطاب المهاجم بالكتب المنحرفة، والمنفلتة، وكتب الشبهات والزندقة!. وكلها كلمات وإشارات تبين أن هذا الخطاب غير مستعد لتقبل فكرة أن عملية التفكير والتغير هي عملية طبيعية، وقد تدفع إنسان إلى ترك منهج وتبني آخر.
إن المجتمع مع مثل هذه المعرفة الجامدة غير موجود ولا متحرر ولا حي. فالمعرفة في عمقها عملية مستمرة، وحيّة. والإنسان لا يكسب الشهادات ليتوقف عن المعرفة، بل ليستمر معها. يقول فيلسوف التربية البرازيلي باولو فريري، صاحب كتاب quot;تربية الحرية: الأخلاق، والديمقراطية، والشجاعة المدنيةquot;، أنه لا يوجد تعليم بلا بحث، ولا بحث بلا تعليم.. لأن التعليم عملية مستمرة، والإنسان سيظل يبحث لأنه يسأل.. كما أنه لا يمكن للأشخاص أن يكونوا آدميين حقاً بمعزل عن البحث والممارسة.
[email protected]