يتخذ قسمٌ من العرب جانبَ الحذر، بل، التشكيك، حيالَ ما يسمى بالربيع العربي، ليس لأسبابٍ تتعلق بالثورات نفسِها، من الناحية الموضوعية، ومن حيث مشروعيةُ مطالبها، بل، لعوامل خارجة عنها، فهم ينظرون إلى مَنْ ساندها من الدول؛ فإذا أظهرتْ أمريكا ودولٌ عربية لا يحبونها، أو لا يثقون بقياداتها، مُسانِدةً للثورة، كما في سورية، أخذوا هم مكانَ النقيض؛ فرفضوا الثورة، أو الاحتجاجات، وشككوا فيها.

ومن الواضح أن أمريكا في هذه الحالة تمثل الوجه الاستعماري، وأن الثقة في ادعائها الديمقراطية منتفية، وأن ازدواجيتها، من خلال تعاملها مع القضية الفلسطينية، مثلا، والقضايا العربية، بعامة، تلقي بظلال من الريبة على كلِّ تحركاتها، وأصدقائها. وطالبي العون منها.

ولا يخفى أن هذا النوع من التفكير المنطقي مُعرَّضٌ للخطأ، لماذا؟
لأنَّ حقَّ المسألة المبحوث عنها أن تأخذ حظَّها من التشخيص، أولا، ثم ننظر في ما يتجاذبها، يمنة ويسرة.

وإنه من الظلم، القفزُ فوق الواقع، وتجاهل الواقع العربي الاجتماعي المتردي، على كل الصُّعُد، والمزمنِ الفساد؛ لمجرد أن أطرافا دولية، أو نظما عربية، أظهرت مساندةً لتلك المطالب.

فهل أيُّ أمر، أو كيان، يُصادفُ تأييدا من جهة ما، يصبح تلقائيا مثل تلك الجهة (المؤيِّدة)، أو يأخذ حكمَها؟
بالطبع لا؛ لأن هناك الكثير من تلك التقاطعات، تتقاطع عند نقطة، ثم تفترق، بعدها، في الأهداف والدوافع والمنطلقات.

وليس أدل على ذلك من قصة الشيطان نفسه الذي أرشد ذلك الصحابي إلى آية الكرسي التي إذا قرأها لم يقربه شيطان، فعلَّق النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- بالقول:laquo; صَدقَكَ وهو الكذوبraquo;

فإذا كان الشيطان، مصدر الشر ورمزه الأوضح، قد يَصدرُ عنه موقفٌ صائب، ولا يجعل ذلك من الصواب خطأ، فإن غيره، في عالم السياسة، أَوْلى.

ذلك أن السياسة أكثر تقبلا للاحتمالات، ولتعدد الغايات، بل إلى التمويه والإيهام والتضليل والاحتواء والاستدراج، والمغالطة، وغيرها.

ولعل خير ما يمثل هذه الحالة المتذبذبة إسرائيل، فمرة يُفهَم منها دعمُ الأسد؛ لأن (عدوا عاقلا وآمنا خيرٌ من مجهول أو متطرف) ومرة يَصدرُ عنها ما يدل على رغبتها في التخلص من نظامٍ يدعم حزب الله، وفصائل مقاومة فلسطينية؛ فهل نتقلبُ في المواقف مع هذه التقلبات، أو المراوغات؟

وأمريكا نفسها_ لِمَنْ تابع _ حاولتْ استنقاذ الأسد، في البدايات، وكذا تركيا، ولكن لما احترقت شرعيتُه، عند قسم كبير من شعبه، ورجَّحتْ تقديراتُها أنه لم يعد قادرا على الاستمرار بحكم سورية، بالحالة السابقة، غيرتْ موقفَها، ولا تزال تُبدي حذرا واضحا، تُجاه قوى المتظاهرين وتشكيلات الجيش السوري الحر.

فتأييد أمريكا للثورة اليوم له أسبابه النفعية البراغماتية، وهو ليس تأييدا مطلقا، ولا تزال الحالةُ الشعبية في سورية غيرَ متبلورة للتوافق مع الشروط الأمريكية، أو أنها لم تفرز قيادةً مركزية قادرةً على النطق بموقف واحد، وصوت واضح.

وعلى فَرَض اصطفاف أمريكا وراء الثوار، فإنه غير كافٍ للحكم على الثورة بالانخراط في المشروع الأمريكي، أو أنها قامت، أساسا، لذلك.

فهل عندما وقفت فرنسا وبريطانيا مع الدولة العثمانية، حينما ضعفت، ضد روسيا، من أجل منع الأخيرة من تمددها، ووصولها إلى المياه الدافئة كان ذلك دالا على تَماهٍ وتوافق بين تَيْنِكِ الدولتين والعثمانيين الأتراك؟ أم أنها كانت توافقا مؤقتا زال، أو تغلبتْ عليه عواملُ أخرى؟
ومثله وقوفُ الدولتين ضد روسيا، مع إيران لمنع الأخيرة، من السيطرة على الخليج، إبَّان تغلغل روسيا في إيران، بدايات القرن العشرين، واقتراب سيطرتها عليها، وعلى الخليج.


فهناك توازنات وأولويات وتوافقات مرهونة بحسابات معينة، فليس مجرد وقوف دولة إلى جانب دولة، أو إلى جانب ثورة شعب، يكفي للحكم بالتبعية، أو بأن تلك الثورة صارت أمريكية، مثلا، وهو أمر لا تدَّعيه أمريكا نفسُها، في سورية، ولا في غيرها من دول laquo;الربيع العربيraquo;.

فلو ثبت أن مطالب الشعب السوري، مثلا، في اختيار قيادته، وفي استرداد قراره، وفي التحرر من القبضة الأمنية المتحكمة في أنفاس الناس، منذ عقود، وفي تقاسم ثروات بلاده، وفرص العيش بعدالة، وما إلى ذلك من مطالب بَدَهيِّة، هي مطالب محقة وذاتية، فالأصل أن يُنظر إلى العوامل الخارجية، أو مخاطر التوظيف الدولي، إلى جانب هذه المعطيات، دون طمسها.

وما دام أنها مطالب مُحقَّة، ذاتيا، والتحرك من أجلها، في الأصل، ذاتي وطبيعي، فمن الممكن دعم التوجهات الداخلية، والانخراط الإيجابي في الثورة، وتغليب الرأي الذاتي المستقل، على الرأي المنادي بالارتباط التام، بالأجنبي، أو تكييف الثورة، وتشكيلها، وفق إرادة خارجية.

وبعد ذلك فإن هذه الثورة كالسوق الرائجة، كل طرف دولي يحاول التربح منه؛ احتفاظا بحصة في الدولة الجديدة، أو الحالة الجديدة، ومثلما تحاول الدول، وتتجاذب فإن الشعب، وهو الفاعل الأكبر على الأرض ليس خالي الوفاض، ولا هو عديم القوة.

فالحالة تتوقف على وعي الشعب، ونوعية توجهاته، وليس كعالَم اليوم، عالمٌ يتمرد على الإملاءات الخارجية، والتبعية المطلقة، والسهلة، ومن يتابع يَرَ بوضوح المخاوفَ والمتاعب التي تلاقيها أمريكا، في ضبط الوضع في مصر، ومُرجَّحٌ، كذلك، في سواها.

فمصر، وهي في قبضة مبارك، أسهلُ قيادا للأمريكان مما هي الآن، وقد توزعتْ على قوى سياسية متعددة ومتباينة، وتخضع كلُّ قوة سياسية لقاعدتها الحزبية، أو الشعبية الانتخابية.

وحتى ليبيا، وهي في قبضة القذافي أسهلُ انقيادا ومساومة للغرب عموما، مما هي عليه الآن، في ظل التخوف من نمو قيادات قبلية، أو غير متفقة، أو متجانسة، أو قوى إسلامية لا تنطوي في أعماقها على فكر توافقي مع أمريكا والغرب.

فالشعوب وحركة التاريخ لا تعود إلى الوراء، والتحرر الداخلي لا بد أن يستتبعه تحررٌ خارجي، ولو بنسبة غير مطلقة، حتى لو لابَسَت هذا التحرر تدخلاتٌ خارجية.

والوعي الشعبي اليقظ، والإرادة الوطنية المتعافية أمورٌ تصعِّبُ السيطرة الخارجية، ولا تسهلها. فمن الصعب، إنْ لم يكن مِن المستحيل، أن يُفرِّط شعبٌ، بكامله، بكرامته الوطنية، وحقوقه الجماعية، لكن ليس من الصعب، ولا من المستحيل أن يفعلَها نظامٌ، أو زمرة حاكمة غير ممثلة لشعبها.

العبرة، دائما، وأولا، بالوضع الاجتماعي، هل هو صِحيٌّ، متماسك، أو طبيعي، في أقل تقدير؛ فيفرز قيادات تمثله؟

أم هو مُنتهَكٌ، ومُنْهَك، ومُغيَّبٌ؛ فَتَغصِبُ قرارَه قياداتٌ تستقوي بالخارج؛ لانعدام السَّنَد الشعبي الذاتي، أو تمعنُ في إنهاك الشعب، داخليا؛ بحجة التصدي لـــــlaquo; المخاطر الخارجيةraquo;؟

وكما اضطر الاستعمار إلى تغيير شكله من عسكري مباشر إلى سياسي، أو اقتصادي، أو ثقافيٍّ تَبَعيٍّ إلحاقي؛ بسبب تنامي الرفض والمقاومة العربية له؛ لتنامي الوعي والإرادة الوطنية، وطغيان رأي عام عالمي، ضد الاستعمار العسكري، ولا يتقبله، فكذلك من المتوقع أن تضطر أمريكا، وغيرها، إلى تقليص تدخلاتها؛ بتنامي الوعي والإرادة الوطنية في الأقطار العربية.
[email protected].