وأنتَ تكتبُ عن عالمِنا العربي، ومِنْطقتِنا المُنهكةِ الوَجَعِ، قد تجدُ نفسَك مضطرا، بين كلِّ جملةٍ وجملة، أنْ تصوِّبَ سلاحَك صوبَ احتمالاتٍ لا تكادُ تُحصَرُ، من سوءِ الفهمِ المتوجِّس، والتأويلاتِ المُسْبَقة!
عبارة خطرتْ لي بعد قراءة بعض تعليقات الإخوة على مقال laquo; العراق وسورية..من يسبق الآخر؟ raquo; ليس المقصود الآن، مناقشة فكرة المقال، ولكن اتخاذ ذلك مناسبةً للحديث عن كيفية التعامل مع الكلمة المقروءة، مهما كانت أشكال الكلمة، ووسائل بثها.
وحين نتحدث عن قراءة الكلمة والرأي، يلزمنا أن نتطرق إلى كيفية قراءة الواقع؛ للكتابة عنه.
وربما يجدر بنا، أولا، أن نسأل سؤالا بسيطا: كم تشغل القراءة، للمادة المكتوبة من حيز تفكيري فاعل في ذهن المتلقي؟ وسؤال أكثر تجلية للمعنى: هل يقرأ المقالَ كلُّ من يعلق عليه؟ وهل كلُّ من يقرأ قرأ فعلا؟

ليس الهدف من طرح هذه الأسئلة التهجم على من يعلق؛ فهذا حقه، ولكني أحاول أن أتبين حظوظ المؤثرات، ومدى تأثير الفهم المسبق، أو، ( وأحيانا هو الأدق)، الانفعال المسبق، والإرث المسبق من القناعات الراسخة، كالمسلمات، وزِدْ على ذلك التحزبات والتحيزات الخائفة والمخيفة.
ومهما دَعَوْنا إلى القراءة الموضوعية للواقع المعيش، رأيا وتحليلا، أو الواقع المكتوب، فَهْماً، وتعليقا، فلا نطمح إلى النقاء التام؛ فلا بد من تسرب مؤثرات ذاتية من القارىء شخصية ثقافية ومزاجية أحيانا، في حالتي القراءة.
أما التوتر فنحن نعيشه، توترا سياسيا بأشكاله، متأزما هذه الفترة، وحاسما لأوضاعٍ، طائفيا، ومصلحيا، توترا فكريا مزمنا، توتر في سورية، وخوف على مصير مجهول، وأمنٍ مفتقد، ونعيش توترا يكاد يصبح عاما في العراق، ونعيش توترا وغليانا في مصر، على خلفية ثورة لم تكتمل، ولا يزال ينتظرها الكثير من التطهير في مفاصل الدولة، وفي المؤسسة الأمنية، وغير ذلك، في اليمن التي حُلَّتْ أزمتُها جزئيا، وفي غير المذكورات كالأردن والبحرين، وليبيا... أزمات تفوق القدرة على الاحتمال، فلم تعد متابعة الأحداث والأخبار ترفا، أو عملا للمتخصص والمراقب، لقد صار ذلك، غصبا، عملا يوميا، بلْ، لحظيا لكل منكوب، من الناس، أو من ينتظر، لقد وصلت السياسية إلى كل بيت، إلى لقمة الخبز، وإلى حاجيات العيش اليومية، وقبل ذلك، وصلت إلى أرواح الناس، ودمائهم.
ومع كل هذه الملابسات التي قد تغطي العقل، أو تجعله حائرا مذهولا، فإنه لا غنى عن تشكيل فهم عن واقعنا؛ حتى لا تتفرد المخاوف والهواجس، وحتى لا تستبد بنا المؤثرات الطائفية، والأحكام المتعصبة المتشنجة التي لا تزيد واقعنا العربي إلا شرا وخطرا.
الكل يلحظ ارتفاع وتيرة العنف، وسهولة اللجوء إليه، في ظل حالة الحسم التي تمر فيها المنطقة، وإعادة الاصطفاف والتشكيل السياسي، ولا غرابة فثمة احتقان ناتج عن عقود من الظلم والكبت، وهناك ردود أفعال ناتجة عن تشبث هؤلاء المُعرَّضين للخسارة، في حال تغيرت الأوضاع، حقا، ذلك أن التغيير المنشود، والذي لن يتوقفَ الحراكُ الشعبي حتى بلوغه، لا يُتوقع له أن يتوقف، حتى يتحقق، هو تغير عميق وواسع، أو هو أوَّلُ الطريق، نحو ذاك التغيير العميق الواسع.

فهلْ للكتابةِ والقراءةِ أيةُ جدوى في ظلِّ هذا التوتر؟
في الوضع الطبيعي: الوعي أولا، والكلمة أولا، ولكن حين يَسْطعُ الواقع، فالمسألة تحتاج إلى أخلاق أولا، وإلى وعي عام ثانيا، أخلاق في من يجرُّ البلادَ إلى حالة عنف خطرة لصالح مصالحه الضيقة، يمتهنُ الأرواحَ، ويتخذ من أرواح مؤيديه أدواتٍ، لزهق أرواح خصومه من عامة الناس، وبسطائهم.
والوعي ضروري ليفهم القاتلُ والمقتولُ أن الضرر واقعٌ في النهاية على الطرفين؛ لأن هذه التَّفَجُرات والنزاعات، إذا امتدت لتصبح مجتمعية فإن الوطن، الحضن الواسع للجميع، لن يعود قادرا على الإيواء، ولن يعود المجتمع قادرا على إنتاج علاقات طبيعية، مبنية على قواسم مشتركة ضرورية، ويمكن لكل المستهينين بذلك أن يستحضروا الحالة اللبنانية، في الحرب الأهلية، ولا تزال تداعياتُ تلك البذور ماثلة، حتى اليوم تُعكِّر وتُهدِّد كل استقرار يكاد ينشأ!
وهنا أهمية أهل الرأي والتأثير، ومسئوليتهم الأخلاقية والتاريخية والإنسانية: أن يكونوا صمام أمان، وأن تُحصر المشكلة في حدودها، ولا تعمم، لتصل إلى المكونات الصغرى في المجتمع، وفهم الحالة عامل مهم في كبح غلواء المشاعر، وتوجيهها نحو الفاعل الحقيقي، وليس الأداة المتصدرة فقط، فما حدث في مصر مثلا، مؤخرا في ملعب بورسعيد يؤشر إلى خلل بنيوي في الدولة، وفي وزارة الداخلية، ما أنتج إهمالا أمنيا لا يختلف في نتائجه كثيرا عن التواطؤ.
وبالعودة إلى أصل الموضوع أقول من الضروري الحرص على الفصل بين ما نريد ونتمنى، وبين ما هو واقع، فحين نقارب الواقع السياسي في بلد ما، أو نورد رأي طرفٍ من الأطراف ذات الصفة التمثيلية؛ لفهم الحالة، فلا يعني ذلك أننا صناعُ هذا الواقع، أو أصحاب هذا الرأي.
وحين نتحدث، مثلا، عن خطر اندلاع حرب طائفية، وتوفُّر عواملها، فلا يعني أننا من دُعاتِها، بل قد يكون هذا الذي يهجس بها مِنْ أحرص الناس على تفاديها.
فلا يخفى أنه من بَدَهيِّاتِ القراءة التفريقُ بين التحليل والتوصيف، من جهة، والرأي والتعليق من جهة أخرى.

وبقدر ما يمتزج التحليلُ والرأي السياسي، عند من يكتب، أو يسبق الحبُّ والكرهُ القراءةَ المتجردة، أو الأقرب إلى التجرد، عند من يقرأ، بقدر ما تُضِلِّلُ الكتابةُ، أو تَضِلّ، وبقدر ما لا تنفع القراءةُ القارىءَ، أو تضرُّه.
وكما جاء في الحديث الشريف:laquo;حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي ويُصِمُّ raquo;. وكما قال بشَّارُ بنُ بُرد:

laquo; وَكَذَّبْتُ طَرْفِي فِيكَ وَالطَّرْفُ صَادِقٌ** وَأَسْمَعْتُ أُذُنِي فِيكَ مَا لَيْسَ تَسْمَعُraquo;

[email protected].