البلدان يتشابهان في أمور جوهرية، ومتجاوران، وكلاهما يعيش أزمةً يُخشى أن تتغلب عليها الطائفية. يشتركان في مكانتهما الحضارية التاريخية، دون التطرق للفروق، وكلاهما شَغَل قلبَ العالم الإسلامي، فترة من التاريخ، دمشق عاصمة الأمويين، مطلع الإسلام، ووقت مدِّه، وبغداد شغلت قلبه، على مدار قرون، أوان عطائه الحضاري، وازدهاره.
وكلا البلدين يشتركان في تجاذب الحضارة والبداوة، كما يقول الدكتور، علي الوردي، في كتابه الممتع :laquo; دراسة في طبيعة المجتمع العراقيraquo; تقوى الأولى بقوة الدولة والعُمْران، وتضعف بضعفها، وقصورها؛ لتشرئبَّ طباعُ البداوة الصراعية، أكثر من غيرها.
ويبدو العامل الطائفي الأكثر فاعليةً هذه الفترة، ولكن عند التمحيص قد يكون هذا العامل مستبطنا عواملَ اقتصادية تتمظهر في صراعات، ومحاصصات طائفية، أو إثنية، ولا سيما في العراق الذي تركه الأمريكان على شفير أزماتٍ متعددة الشُّعَب.
وبالرغم من أن العامل الاقتصادي لا يتفرد في سورية، إلا أنه حاضر بقوة، ولا سيما من طرف القابضين على السلطة، ومكاسبها، وكذلك من أولئك الفقراء، المهمشين في الأرياف السورية، وفي المدن، بالطبع لا يقلل هذا العاملُ من حضور عوامل تُوضِّحُها شعاراتُ المتظاهرين عن الحرية والكرامة.
في العراق يشكو الطرف الآخر في الحكومة، وهي القائمة العراقية من تفرد رئيس الوزراء نور المالكي بالحكم، وديكتاتوريته، وتقديمه أجندات خارجية غير وطنية؛ استجابة لولاءات طائفية ضيقة؛ ما ينذر باحتقان طائفي يفضي إلى فتنة طائفية، وهو ما لا يقتصر شرُّه وضررُه على العراق، ولكنه يفتح البابَ لصراعاتٍ وانقساماتٍ طائفية، في المنطقة العربية كلها، وأَوْلى البلدان باستقبال هذه العدوى هي سورية التي ارتفعت الأصواتُ محذرةً من أن الانسداد السياسي المشفوع بالقمع الوحشي من السلطات سيؤجج حربا طائفية.
فقد وجّه نائب رئيس الوزراء العراقي صالح المطلك رسائل إلى دول مجلس التعاون الخليجي وأميركا وإيران والعرب، وقال في حديث إلى laquo; الحياةraquo;: laquo;إذا استمر الوضع الحالي في العراق سينتقل فيروس الطائفية والتقســـيم إلى عموم المنــــطقةraquo;، واعتبر ما يحـــصل في بلاده laquo;أخطر مما يحصل في سورية، والديكتاتــــورية في العراق أكثر من الديكـــــتاتورية في ســــورية.raquo;
وبالرغم من التداخل بين الأزمتين العراقية والسورية، وانعكاس إحداهما على الأخرى؛ فإن لكل بلدٍ ظروفَه الخاصة، ودواعي احتفاظه بتلك المسافة.
فالحكومة العراقية الواضحةُ الانحياز للنظام في سورية، شأنها شأن إيران لا يُتوقع منها الذهاب بعيدا وراء نظامٍ يتصدع، وتزداد عزلتُه داخليا، وعربيا، ودوليا.
والأطراف العراقية المؤثرة تدرك جيدا التوازنات في المنطقة، بين إيران وتركيا، ولذلك تحاول أن لا تدفع بالتأزم في الداخل العراقي إلى نهاياته؛ لما لذلك من أضرار على الجميع، وفي هذا السياق جاءت زيارة زعيم laquo;المجلس الإسلامي الأعلىraquo; عمار الحكيم أنقرة، وتصريحاته التي قال فيها: laquo;المصالح والعلاقات بين العراق وتركيا لن تتأثر بالإشكالات والاختلافات البسيطة
وقال الحكيم laquo;إن بلاده حريصة على إطلاق رسالة المحبة والمودة مع الجارة الشقيقة تركيا بما يخدم مصلحة البلدين ويعزز العلاقات الثنائية بينهماraquo;
وأضاف إن laquo;العراق لا يمكن أن يدار أو يحكم من طائفة واحدة أو قومية، وعلى مكوناته المختلفة تقاسم الحكم والمشاركة فيهraquo;.
جاء ذلك عقب توتر العلاقة التركية العراقية، وتحذيرات رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان من حرب طائفية في العراق، بعد أزمة نائب الرئيس العراقي، طارق الهاشمي، وكان لافتا توجيه أردوغان الدعوة إلى الدول التي تحاول ممارسة نفوذ في العراق، إلى التصرف بحس سليم وبطريقة مسؤولةraquo;. وعلى إثرها أبدى رئيس الوزراء العراقي، نور المالكي أسفه لكون laquo;تركيا تمارس دورا، ربما يؤدي إلى كارثة وحرب أهلية في المنطقة، لن تسلم هي نفسها منهraquo;.
فمن ذلك يظهر أن أيَّ تهوُّرٍ نحو تغيير جوهري في المعادلة السياسية في العراق لن تسمح له تركيا بأن يمر مرور الكرام، وتقوِّي دورَها الاستراتيجيةُ الأمريكية، بعد انسحاب جيشها من العراق، فحين كانت الولايات المتحدة على وشك إتمام انسحابها عملت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، على طمأنة القلقين من استحواذ إيران على العراق بالقول إن واشنطن تترك العراق، وفي جواره تركيا الحليفة لواشنطن.
ولا يخفى أن أنقرة قادرة على لعب هذا الدور، وبينها وبين طهران علاقات اقتصادية وتبادلات تجارية، لم تتأثر حتى بعد نصب الرادار الأطلسي في جنوب شرقي تركيا؛ العلامة الأخرى على التعاون بين هذه الدولة الأطلسية وأمريكا والغرب، في مواجهة التوسع، أو التهديدات الإيرانية.
ومثلما تضطر طهران وأنقرة إلى الحفاظ على توازنٍ ضروري في العراق، حتى الآن، فإنَّ المنطق نفسَه مُرَجَحٌ في سورية، وبقدر ما تُخِلُّ إحداهما؛ فتقدم الدعمَ غير السياسي لطرف من أطراف الأزمة تُخِلُّ الدولة الأخرى؛ فإذا ثبت أنَّ إيران تُمِدُّ قوات الأسد بمقاتلين من الحرس الثوري فإنَّ تركيا قد تجد نفسَها مدعوةً إلى السماح بوصول السلاح إلى الجيش السوري الحر.
ولما كان التوجه الراهن من الحكومة العراقية واضح في ميوله نحو إيران، وفي ترجيح كفتها، على حساب الفئات العراقية الأخرى فإن الإمعان في ذلك إلى درجة الإقصاء السياسي قد لا يكون سهلا؛ فالأسلم أن يُترك هامش معقول.
وأما في سورية التي تشهد احتجاجات حقيقية أقرت إيرانُ نفسُها بها، وإن دعت إلى إبقائها، داخل سورية فإنَّ الاستحقاقات مختلفة، فهنا لمْ تُجْرَ انتخاباتٌ حقيقية، ولم تُعرَف توجهاتُ الناس، ولا أحجام كل فئة، وهنا ثمة استخدام مفرط في القوة، إذا أردنا التخفيف، مقابل مسيرات سلمية ومشيعين للضحايا، وفي مواجهةِ جماعاتٍ اضطرت للقتال؛ دفاعا، أو انتقاما على عدوان سابق.
وبرغم التشابه في طبيعة البلدين، وكوامن الصراع فيهما، فإن انفتاحهما على حرب طائفية واسعة لا تزال العواملُ الراهنة تستبعده، ففي العراق لا مصلحةَ عقلانيةً في الانحدار نحو تأزم نهائي وحروب داخلية، وفي سورية، وبرغم خطورة الوضع، فلعلَّ الأَسْلمَ لمؤيدي النظام من دول المنطقة أن يكبحوا غلوائهم؛ لأنَّ تدخلا إيرانيا أكبر في سورية يهدد العلاقات مع تركيا، وقد يخلط الأوضاع في العراق؛ فَعراقٌ في اليد خيرٌ من سورية خَطِرة.
[email protected]
التعليقات