المواقف الدولية، الأوروبية، والأمريكية واضحة: لا شرعية للأسد، والإعداد جارٍ لمَخْرج من الأزمة، يمهِّد لدولةٍ ديمقراطية تعددية، تمثل كلَّ الطوائف والأقليات، وتلتزم بسياسة مقبولة تجاه العالم ودول المنطقة، بما فيها إسرائيل، وفق الرؤية الغربية.

إذن ما الداعي لطرح السؤال، أعلاه؟
هنا مسألتان الأولى: التخوف المزمن من مخالفة دول الغرب لما تتعهد به في العلن، أو تراجعها تحت ضغط اعتبارات مصلحية، ولو تنافى ذلك مع قيمها الراسخة، وعلى ذلك سوابق كثيرة، لعل أبرزها الموقف من laquo;عملية سلام الشرق الأوسطraquo; حيث المسافة واسعة بين القول والفعل السياسي، وبعد ذلك التراجعات و(التعديلات) تتابع حتى على مستوى المواقف اللفظية.
فلو حاولنا المقارنة بين الموقف القِيَمي الأمريكي، مثلا، والممارسة العملية نجد الفرق واضحا، والمصالح، أو (الاستقرار) هي المحدد الأول.
من الناحية القيمية، أمريكا مع تعميم الديمقراطية، بكل مستوياتها وتجلياتها في العالم العربي، وكانت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون صرحت، بدايات الربيع العربي، أن هذه عاصفة لن تستثني أية دولة في المنطقة، وعلى الجميع المبادرة إلى الاستجابة إلى تطلعات الشعوب...
ولكن واشنطن في اليمن، وفي البحرين، مثلا، آثرت الاعتباراتِ المصلحية، على التصعيد المنتهي إلى الإصلاح الديمقراطي والاستجابة الكاملة للتطلعات الشعبية، صحيح أن اليمن شهد حلا، لكنه حلُّ تَرْضِيَة، أكثر منه الحل المأمول من جموع المتظاهرين.
وكذلك في البحرين لم تُظهر واشنطن حماسةً لتغييرات واسعة، ومالت إلى احتواء الأزمة، وتلبية بعض المطالب الإصلاحية الجزئية؛ لحساسية موقع دولة البحرين، والتأثير المحتمل على دول مهمة، كالسعودية. فضلا عن تخوف واشنطن من زيادة النفوذ الإيراني في البحرين، ومن ثم في منطقة الخليج، وهو ما يخل بالتوازنات المهمة لاستقرار المنطقة.
وإذا أرادت واشنطن التخفيف من الانتقادات لهذا التمييز الأمريكي، حيال ثورات العرب، قالت: لكلِّ بلد ظروفُه، والتغيير يجب أن يراعي تلك الفروق.
ولو استرجعنا المواقفَ الأمريكية، في الأشهر الأولى للثورة في سورية، نتذكر ذلك الدعم الصريح لبشار، ووصفه بالإصلاحي، علما بأن كثيرا من الناس العاديين يعلمون أن الحاكم في سورية ليس (بشار)، بقدر ما هم قيادات البعث، وبعض أقارب الرئيس، من ذوي النفوذ المالي والشخصي؛ فهل كانت أمريكا تجهلُ قدر الأسد، حين عولت عليه بإصلاح نظام مزمن الفساد، ومؤسَّسيِّ الفساد؟!
أم أنها قارنت بين تحول نحو المجهول، وبين نظام لا يجازف بالوقوف أمام المشاريع الأمريكية الحيوية، في المراحل التاريخية المفصلية، ومع أنه لا يبدي غراما بالإدارة الأمريكية، ولا يحبذه غلاةُ المؤيدين لإسرائيل في الكونغرس.
ولكن بين أن يكون نظام الأسد هو النموذج المأمول، أمريكيا، وبين العمل على إسقاطه مسافةٌ تسمح بحلولٍ وسط، وبمساومات لم يكن النظامُ البعثي في سورية، دوما، عنيدا تجاهها.
ولكن أمريكا، تحديدا، حين رأت عجز النظام عن إنهاء الاحتجاجات العنيدة، والمستميتة، ثم أُحرجت من غزارة الدم المسفوح، في شوارع المدن والريف السوري، وكانت أيدت من قريب، ثورات تونس ومصر وليبيا، وبعد أن ثبت عجزُ نظام الأسد عن تلبية مطالب المتظاهرين، بعد كل ذلك تدرَّجتْ نحو رفع الشرعية، عن هذا النظام الذي لا يختلف جوهريا، بل يضاهي ويفوق النظم التي رحبت واشنطن بإسقاطها.
وبعد أن وصل الحوار الداخلي معه إلى طريق مسدود، ودخلت السلطات إلى مرحلة أخطر من التفجيرات في قلب دمشق، ومن فتح البلد على حرب طائفية، تعززت القناعة الأمريكية بخطورة بقاء الوضع على حاله.
وإن كانت ليس مستعدة للمجازفة والتسرع في حسم الموقف، إذا لم تضمن نضجَ الحالة لهذا الانتقال، هذا النضج الذي يجب أن يتوَّج بتماسك المعارضة، وتمثيلها لكافة الفئات والطوائف، وهذا المسار لا يزال يشهد تذبذبا، وحتى تطمئن إلى طبيعة الدولة: أنها مدنية تعددية ديمقراطية، وحتى تضمن التزامها بعلاقة غير حربية مع إسرائيل.
وحتى ذلك الحين تجهد واشنطن في ضبط الأوضاع في المنطقة، وذلك بحصر الأزمة، قدر الإمكان، داخل الأراضي السورية، وبضبط السلوك الإيراني.
إذن مسألة التناقض بين القيم والمصالح زالت، غالبا؛ لأن المصالح الأمريكية، في المنطقة باتت غيرَ آمنة، في ظل استمرار الأزمة، والانشقاقات في الجيش، وتنامي نذر حرب في الداخل، بغض النظر عن حجمها، وطبيعتها.
أما المسألة الثانية المتعلقة بالسؤال، أعلاه، فهي التنفيذ الفعلي لتلك القناعة التي تكونت، والانتقال إلى خطوات عملية حاسمة، أو تمهد للحسم، وهنا عدة أمور، منها ما ذكرتُه سابقا، من عدم اكتمال النضج، في المعارضة، وقد يكون ثمة محاولات أمريكية لتعديل مراكز المؤثرين في المعارضة؛ تبعا، لدرجة الاقتراب من السياسة الأمريكية، مقابل السياسة الأوروبية، أو الفرنسية، مثلا، ولا ننسى الخلافات التي طفت على السطح، إبَّان الدور الذي قام به laquo;الناتوraquo; في ليبيا، بين الدول المشاركة، وكانت معظم الخلافات والانتقادات ضد فرنسا.
وعلى مستوى المعارضة، أيضا، ربما تريد أمريكا إشاراتٍ أوضح على تمكن laquo;المجلس الوطنيraquo; وlaquo;الهيئة التنسيقيةraquo; من الجماهير المتظاهرة، ومن قدرتهم على قيادتهم وضبط إيقاعهم ومطالبهم التي قد يشوبها (تطرف).
ولا ننسى حساسية المرحلة الحالية، لإدارة أوباما، وله، مرشحا، للرئاسة، ولحزبه الديمقراطي، حيث بالكاد يستطيع الاعتداد بالنجاح في العراق، وحيث أي انفلات، أو تدهور في سورية، يهدد الوضع المهدَّد، أصلا، في العراق، ولبنان، فأَنْ تنتظر واشنطن، في وضع كهذا الذي لا يزال تحت السيطرة، ولو أنه لا يُطاق داخل سورية، خيرٌ لها، مِنْ أنْ ينفرط عقدُ هذا البلد، في هذه المنطقة، وفي هذا التوقيت الحرج، حيث الضغوطُ تتزايد على أوباما، لاتخاذ موقف أقوى، في الملف النووي الإيراني، ولهذه الأزمة تداعياتٌ على استقرار المنطقة، بعد التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، ولو أن جديتها مشكوكٌ فيها، لكنها تعكس أجواء من التوتر على المنطقة والعالم.
وفي ضوء هذه المقاربة فإن التوقعات بتمديد مهمة بعثة المراقبة العربية تبدو أكثر تَطلُّبا، وثمة أخبار أن عددا من الدول الأعضاء في الجامعة التي ترفض تمديد مهمة البعثة غيرت مواقفها في الأيام الأخيرة.
ذلك أن الجامعة لا تقوى على الحسم، وحدها، وقد يغدو تخلِّيها عن دورها، في الوقت الراهن، دون توفر بدائل ناجزة، أو سيناريوهات للحسم، سببا لمزيد من التدهور، في سورية.
[email protected].