لقد كان في محاكمة مبارك عبرة، أمرٌ لم يتوقعْه، حتى في أقسى كوابيسه، وأشدها سوادا، ولا حتى ضحاياه من الشعب المصري. لكنها قوانين الحياة الاجتماعية التي لا تنضبط. إنَّ ما لا نحبه، ولا نتوقعه ليس بالضرورة أنْ لا يقع، وإنَّ تدابيرنا وحساباتِنا كثيرا ما تخذلنا؛ فهل كان مبارك ينقصه الكبرياء، والعناد؟ أم هل كان مفرِّطا ومتهاونا في تدابير الأمن، وقد أعدَّ من رجاله عشرات الألوف؟!
كان مشهد محاكمة الرئيس السابق مبارك غزير الدلالات، مبهجا، لكثير من الشعوب العربية التي ظلمها حكامُها، وليس للشعب المصري فقط.
ولكنه في الوقت نفسه يقلق أولئك الذين تورطوا في مثل أفعال مبارك، وانزلقوا إلى غير رجعة في قتل شعوبهم، لمَّا طالبت بحقوقها، وخرجت عن صمتها الطويل، فالدائرة قد تدور عليهم.
ولعل لسان حال بعض الحكام من مثل القذافي وبشار: أدمِّرُهم، وأُزهِقُ أرواحَهم قبل أن يُطلِّوا على روحي، وأنال القصاص الأقسى.
ليست المسألة في استحقاق بشار وشركائه في هذا الجرح السوري النازف، المحاكمة العادلة، ولكن في فرصة تحققها، أو وقتها.
ذلك؛ لأنه المسئول الأول بما هو رئيس الدولة، والمتصرف في مقدراتها، وأهمُّها هذا الجيش الذي تُمتهن كرامته، مكرَها، وهو يتحول عن مهمته الأصيلة، والمشرِّفة، وهي الدفاع عن وطنه من أي عدوان عسكري، إلى خوض الحرب، ضد أهله، وأبناء وطنه، العزَّل، في مدنهم وقراهم؛ فأيَّةُ روح قتالية استبقى بشار لجيش سورية؟!
وأية أضرار معنوية ألحقها هذا (الرئيس) بقيادات هذا الجيش وعناصره، وهم يصبون نيرانهم الثقيلة على أحياء سكنية ما عادت؛ بسببهم، آمنة؟!
إنه ضَرَبَ الجيشَ بالشعب، وخرّب تلك العلاقة الخاصة بين الشعب وحُماتِه، لولا بعض الانشقاقات، ولولا التمرد على أوامر إطلاق النار التي شهد بها جنودٌ وضباط، وقُتِل رفاقُهم بسببها.
تقول الآية الكريمة:raquo; من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً laquo;
فحالات القتل الوحشي للمدنيين التي تعد بالآلاف، من أوضح الجرائم، وأعظمها استفزازا للضمير الإنساني، ومن أوجب الموجبات للمحاكمة. والرئيس هو المسئول عنها جميعا، وعن سائر الجرائم الأخرى كالاعتداء على الأعراض، والاغتصاب، سواء وقعت بأمرٍ مباشر منه، أو بتفويض، أو غض الطرف.
وغنيٌّ عن الإفاضة حديثُ الاعتقال والتعذيب في هذا (النظام) الأسطوريِّ القسوة، منذ عهد الأب، وإلى الابن، وعلى خلفية الرأي، أو الخلاف السياسي.
ولن ينفع بشارا دسُّ الرأس في الرمال، كما النعامة؛ فهو المسئول الأول عن كل الجرائم، في كل مستويات الدولة، وفي كل أجهزتها العسكرية والمدنية.
وعلى المستوى السياسي جريمةٌ كبرى تتمثل في حرمان بشار للشعب طوال سني حكمه من ممارسة حقه في المشاركة، واختيار حاكمه الذي يلبي تطلعاته، ويمثله، ويقوده والوطن، في انسجام، إلى الحالة التي يستحقها.وقد نتج عن الفساد السياسي في سورية فسادٌ اقتصادي وإداري، اشتهر حتى سارتْ به الرُّكبان، وأقرَّ به الرئيس، بعد ما فات الأوان، تحت الضغط الشعبي؛ فهل قبل ذلك كان الرئيس يجهل الفساد؟!
إن محاكمة الرؤساء الذين أجرموا في حق شعوبهم وبلادهم أمرٌ حيوي جدا؛ إنه ينفض روح الشعب المظلوم، ويبث فيه الثقة, وإنه يعيد للعدالة معناها، ويحققها. بل إنه يجعل المواطن يحبُّ وطنَه أكثر، ويؤمن به، كأجمل وأنقى حالات الإيمان.
وإن محاكمة الرؤساء على أيدي شعوبهم، وبقوانين أممهم، لا بالقوى الخارجية، يعزز الاستقلال، ويمكِّن للإرادة الوطنية، ويحمي الأوطان من التدخلات الخارجية غير البريئة.
وإن محاكمة الرؤساء، أمام القانون، بكل معطياته، ورصانته، وتحرِّيه العدالة، يرفع الشعوب من مرتبة البربرية إلى مرتبة عالية في التحضر، والتمدن الإنساني.
ليسدل بذلك الستار على مرحلة اهتزاز القانون؛ بفعل أولئك الرؤساء الذين لم يكونوا يقدرون القانون، بل داسوه بأقدامهم، وهم واضعوه، أحيانا، أو راضون عنه؛ فلم يحترموا استقلالية القضاء، وكرسوا في طبقات الحكم والإدارة روح التلاعب، والمحسوبيات، وتوظيف القانون كلما لزم.
وبين استحقاق بشار الأسد ومعاونيه المحاكمات العادلة، وبين القدرة العاجلة، أو الآجلة على تحقيقها مسافةٌ قد تطول وقد تقصر. لكننا لا نعرف نظاما انتصر على شعبٍ رَفَضَه، بمثل هذا الرفض، وعلى هذا القدر من التصميم، والتضحية الفائقة، والشجاعة الأسطورية.
[email protected].
التعليقات