في السودان انفصل الجنوب، برغم المخاطر, والمشكلات العالقة، انفصل، واحتفل العالم بانفصاله، وابتهج، برغم المخاطر، اعترف العالم بأحدث دولة في العالم، ودعم.

وفي فلسطين، تحاول دولةٌ أن تولد، ولكنها، كما يبدو لم تَنْضَج، أو أن الأجواء التي تنتظر الوليدَ تجبره على النكوص إلى الداخل، ولو نَضِج.

-في السودان حربُ تطلُّ برأسها، بعد الانفصال، والانعكاسات الصعبة على نمط المعيشة حقيقية، نظرا للتداخل القبلي، والدورات الرَّعَوية، والتداعيات غير المحسومة، ما يهدد بحروب أهلية؛ فقد تقبل الحكومتان، ولا يقبل الناس، ومثال على ذلك، منطقة أبيي الغنية بالنفط، القنبلة الموقوتة، أو برميل البارود الذي ينذر بالانفجار، فقد رفضت قبيلة المسيرية حكمَ هيئة التحكيم الدولية في لاهاي، مع أن الطرفين الرسميين في الشمال والجنوب قبلا به، رفضت المسيرية( ولا يُستهان بها) ذلك بصلابة؛ بحجة أنه اقتطع حوالي 50% من أراضيها ذات المياه والمراعي الكثيفة التي اعتادت العيش فيها، منذ عقود طويلة، ثمانية أشهر، من كل سنة.

- وفي فلسطين، برغم الاحتلال الذي طاول أجيالا، والأراضي التي تُقضم، والموارد التي تتناقص، لا تقوى الشرعية الدولية على أن تترجم إرادتَها في دولة فلسطينة.

ومن المفارقات الطريفة أن الدولة الوليدة، في جنوب السودان، قد تحل محلَّ laquo;السلطة الفلسطينيةraquo; في القاعة الرئيسية للجمعية العامة للأمم المتحدة، على أن تُعاد laquo;السلطةraquo; ( وهي بصفة مراقب) إلى المقاعد الجانبية؛ لأن القاعة تمتلىء عن آخرها.

طبعا، نحن هنا، لسنا بصدد مناقشة انفصال جنوب السودان، وأحقيِّة أهله، بالانتصاف، ونيل حقوقهم الطبيعية. وحالتُهم المعيشية، والحقوقية المتردية، يشاركهم فيها أهلُ الشمال؛ فالفقر والتهميش، والمرض، وغيرُها مشاكل للسودان كلِّه، بشماله وجنوبه، وشرقه وغربه، وليس حلُّ ذلك، كلِّه، يكون، بالضرورة؛ بانفصال كلِّ جزء، واستقلاله في دولة، بل قد يعقِّد ذلك المشكلاتِ, ويستحدث مشكلاتٍ طارئة.

في فلسطين، وبعد عقود من الاحتلال، والمعاناة والمفاوضات، وعشرات من المبادرات الدولية، والعديد من القرارات الدولية، و(الاعتراف الفلسطيني) بإسرائيل، ووفاء السلطة بالتزاماتها الأمنية، وبنائها للمؤسسات، والشهادات الدولية بشفافية ماليتها، وتطابقها مع المعايير الدولية، وبرغم القيادة الفلسطينية التي توصف بالاعتدال، دوليا، وحتى إسرائيليا.

برغم كل ما سلف وغيره لم يتنفس الوليدُ نسمات الحياة، وتحاول السلطة اللجوء إلى ما يشبه العملية القيصرية، ولكن القابلة الأمريكية ترفض ذلك، ولا تريد إلا (ولادة طبيعية) بالتراضي، وبالتفاوض، مع الدولة المحتلة.


ماذا يعني هذا؟

يعني أمرا بسيطا، وهو أن منطقتنا لا تزال غير قادرة على ترجمة الحقائق والاستحقاقات الموضوعية إلى واقع حسي، ما لم يُسْبق ذلك بإرادة دولية تُنضج غيرَ الناضج، أو تؤجل الناضج، حتى يموت، وهو في الرحم، أو يبقى في مخاض مؤلم، ومرهق اقتصاديا واجتماعيا، ومعنويا.

وهذا الافتقار التام إلى الدول الفاعلة، ليس مقتصرا على ولادة الدول، ولكنه يتعداه إلى التغيير في النُّظم، والإصلاح السياسي، وهو ضعف يرتد إلى البناء الداخلي العربي المتراكم على فساد؛ حتى الإعياء الشديد للمريض، والطبيب، أيضا.

ولا يعني ما سبق أننا نغفل الاعتراف العالمي بالدول، ولا المساندة الدولية لقضايانا العادلة، فهذا تسعى له كلُّ دول العالم، قويُّها، وضعيفُها، ولكن غير السوي هو انخفاض الأثر الذاتي في صنع التغيير، إلى درجة كبيرة.

ولم تخرج عن هذه الحالة الثوراتُ العربية الأخيرة؛ لأن التغيير الذي وقع في تونس، ومصر داخلي، يقف عند السياسة الخارجية السابقة، ولا يتعداها، إلا في تلوينات خفيفة، لا تطال الجوهر.
بل ربما تواجه هذه الدول كبحا للتغيير في الداخل؛ بسبب مراعاة أهل الحكم فيها للاعتبارات الخارجية.
هذه معادلة يفهمها الثوار، ويقر بها، كما يفهمها الحكام المهدَّدون.
ففي مصر, لا مساس بالالتزامات الخارجية، ولا مساعيَ لإلغاء معاهدة الصلح، مع إسرائيل، حتى من الإخوان المسلمين.

وفي ليبيا يعلن laquo;المجلس الوطني الانتقاليraquo; عزمَه إقامة علاقات جيدة مع إسرائيل؛ لأنه يعلم أن هذا جواز العبور إلى المجتمع الدولي، ونيل شرعيته. ولنفس الغاية يعمل المجلس الانتقالي على تطهير صفوف الثوار من أية عناصر متطرفة، لا ترضى عنها واشنطن. وتتولى هذه المهمة دائرةُ الاستخبارات التي شكلها المجلس، وهي الدائرة التي أنشئت- بحسب صحيفة التايمز البريطانية- بعلم وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إي).

وفي سورية، هتف الثوار، وهم والمروَّعُون، من نظام بلادهم، للسفير الأمريكي، الذي زار حماة؛ لجس النبض، وبناء تصور عن الثوار، وواكب سيارته متظاهرون، على متن دراجات نارية؛ لخشيتهم على سلامته.

كما شارك معارضون سوريون في مؤتمر باريس بحضور فاعل للفيلسوف الصهيوني الفرنسي برنار ليفي، ومنهم ممثل عن الإخوان المسلمين في سورية, وهاجم معارضون آخرون هذا المؤتمر، تحديدا.

ولا بد، أن الحريصين على المواقف الدولية المساندة، يعلمون الأثمان المطلوبة، وأن تلك الدول تريد الحفاظ على مصالحها في بلادهم.

وقد يقول قائل: وما الضير في ذلك؟! مصالح متبادَلة. ولكنها، في الحقيقة، ليست متبادلة بتكافؤ، إنما بتبعية، وارتهان، وتحكم عن طريق القروض، والاتفاقات المقيِّدة، وغيرها.

فمَنْ يرحب بالتدخلات الأجنبية إنما يقرُّ، ضمنا، ببقاء العلاقة الخارجية، على ما هي عليه، ويساوم تلك الدول، على أنه الأفضل لها، من نُظُم استُهلكت، ومجَّتها شعوبُها، ولَفَظتْها.

وكدليل ساطع على أن الغرب لا يبالي بالمصالح العربية، حين لا تحقق مصالحه، أو حتى مصالح حلفائه الحقيقيين، وأنه لا يَحْمِل العرب، على محمل التكافؤ، أو الجِد. كدليل على ذلك نذكِّر بما تُجابَه به laquo;السلطة الفلسطينيةraquo; من ضغوط، وتحذيرات أمريكية؛ إذا هي توجهت إلى الأمم المتحدة؛ لنيل اعترافها بالدولة الفلسطينية. ولم تقتصر واشنطن على تهديد السلطة بوقف (المساعدات المالية) حتى لوَّحتْ مندوبة الولايات المتحدة، في مجلس الأمن، سوزان رايس، بوقف دعم بلادها المالي والسياسي للأمم المتحدة، في حال التصويت في الجمعية العامة لإقامة الدولة الفلسطينية. وهو تصويت رمزي، غير ملزم؛ لأن الفيتو الأمريكي معلن مسبقا، في مجلس الأمن.

صحيح، أن موقف بعض الدول الأوروبية يميل نحو التصويت لصالح القرار، ولكنها تُخضِع ذلك لمساومات، وتراعى علاقاتِها بالولايات المتحدة, وإسرائيل، أكثر مما تفعل مع العرب والفلسطينيين، وسِجِّل مواقفهم، وتراجعاتهم، يؤكد ذلك.

والمعنى أنَّ الدول لا تنشأ، في منطقتنا نشوءا طبيعيا، وأنَّ الإرادة الدولية تهزأ بالحقائق الموضوعية، ولا تفعِّلها؛ حتى تصادفَ مصالحَها، أو تطابقها، وأنَّ هامش التغيير في البلاد العربية، لا يتسع ليشمل الجوهري، أو الأبعاد الخارجية. وأنَّ هذا الحال ينبىء عن اختلال عميق في البِنْية العربية، لا يقتصر على الأبعاد المادية، بل يتعداها إلى المعنوي الذي لا يزال يستشعر التبعية، وينقاد لها.
[email protected].