مما يكاد يجمع عليه المراقبون أنَّ التحولات التي يشهدها العالم العربي أثبتت خطأ المخاوف الغربية، التي رأت بأن البديل عن الأنظمة المستبدة والديكتاتورية هي الحركات الإسلامية, والمتطرفة.
تلك المخاوف التي ظل الحكام المُهَدَّدون يلوحون بها، بمن فيمهم مبارك، والقذافي؛ فهل الذي يحدث في العالم العربي اليوم تحوُّلٌ نحو الديمقراطية على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط جدار برلين؟
يصعب أن نطابق بين التغيرات الأوروبية، والتغيرات التي تجتاح المنطقة العربية؛ لأن الأخيرة تشتمل على عنصر اختلاف، هو الإسلام الذي يتمظهر في مظاهر شتى، ويصعب القبض على تجلٍّ واضح, أو محدد له، فهو على الصعيد النظري يتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، لكنه على مستوى التفسير والفهم يتمظهر في عدد لا يكاد ينحصر من التفسيرات والرؤى الممتدة من السلفية إلى العقلانية، ومن (التشدد والجهادية) إلى (الاعتدال والسلمية).

فما موقع الإسلام في الثورات الأخيرة؟ وما حجمه؟
فيما لا يطفو على سطح هذه الحالة الشعبية الثائرة غيرُ المطالب المدنية من حرية وكرامة وحقوق المواطنة، وإنهاء الاستبداد بالثروات والسلطات، فإن السؤال يبقى عما يمكن أن تتمخض عنه هذه الثورات هل هو الحياة المدنية العلمانية, أم مزيد من التوجه نحو الإسلام؟

لاحظ الجميع أن الحركات والقيادات الإسلامية التي شاركت في تلك الثورات لم تعلن عن رغبتها في أسلمة هذه الثورات, بل إنها حرصت على منع أي شعار إسلامي خاص أن يُرفع؛ خشية تفريق الجموع وتشتيت الهدف الموحد.

قد يقال إن هذا ليس مستهجنا، ولا هو قطعي الدلالة على تحول ديمقراطي، أو مدني في طبيعة تلك الحركات والقوى الإسلامية؛ لسبب بسيط هو أن الهدف الراهن, والأكثر أهمية هو الذي تَغلَّب؛ فالمسألة لا تعدو التعاطي المرحلي التدريجي الذي تقبل به تلك الحركات الإسلامية.

وأن تلك الجماعات والشخصيات الإسلامية, على اختلافها ترتد إلى هدف نهائي مشترك هو تحكيم الإسلام في المجتمع والدولة؛ فهي شمولية. وِفاقا لما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد، من أن الخلاف بين المعتدلين والمتطرفين حول مجال تطبيق المبدأ، وليس في المبدأ ذاته، ويعني هذا عنده أن ما هو واضح معلن في خطاب المتطرفين كامن خفي في خطاب المعتدلين.

وعلى هذا، فإن تلك الجماعات ترجىء قسما من أهدافها، إلى أن يتيسر تطبيقها، ويضحي المجتمع والناس أكثر تقبلا لها.

بالطبع هذا الاعتقاد الذي يساوي بين الحركات والتوجهات الإسلامية في الهدف العام لا يعني- إن صح- أنها ستتماثل في كيفية تطبيقها، وفي نظراتها للمجتمع ولشكل العلاقة مع الغرب؛ لأنها تختلف في فهمها للإسلام، وتختلف في بعض أصولها؛ فمنها ما يعتمد المصلحة والرأي، ومنها ما يقتصر على النص والأثر. ومنها المتأثر بالواقع وبالحداثة، ولنا أن نرى هذه المسافة ماثلة بين (تنظيم القاعدة، وحركة طالبان) من جهة، وحركة النهضة التونسية من جهة أخرى؛ لنرى البون الواسع بين نهجين ونموذجين.

وما دامت غالبية تلك القوى ترهن تقدمها نحو الإسلام بحال الناس، وحجم الدين فيهم، أو لنقل حجم (الدين الذي يفهمونه) فيهم؛ فلا بد من مقاربة لحال الناس في المنطقة العربية، من حيث نوعية الدين الذي يشغلها، وكيفية فعله فيها.

التدين في المجتمعات الغربية شعائري طقوسي في الأغلب:
لا يمكن لزائر مصر مثلا، أن يغمض عينيه عن عمق الإسلام في الوجدان المصري، ومع ذلك لم يكن هو المحرك للثورة التي أطاحت بالنظام السابق، وكذا الأمر في الشعب الليبي، واليمني، فضلا عن السعودي، وغيرها، لكن تدين المجتمعات العربية، في معظمه يميل نحو التدين البسيط، أو الفطري، الشعائري.

الواضح أن الشعوب العربية لم تنخرط لا في الدعوات العلمانية, ولا في الحركات الإسلامية، إنها في منزلة بين المنزليتين؛ فلا هي متدينة بدرجة صارمة, في ممارساتها الاجتماعية, وتصرفاتها الاقتصادية, وآرائها من القضايا الجدلية المطروحة, ولا هي علمانية في تفكيرها، وفي سائر ممارساتها كذلك.

إن العقيدة الباقية والعميقة هي الإسلامية، ولم تحل محلها عقيدة أخرى, وهذه العقيدة بطبيعتها روحية، تعالج شئون الآخرة, والعبادات، وسياسية، تعالج شئون المجتمع بكل فروعها.غير أن معظم المسلمين يستَبْقون منها الصفة الروحية، ويحتاجون إلى عمل وإقناع غير قليل حتى يضموا إليها البعدَ السياسي الذي ينتابه الكثير من الجهل، ويشوبه غير قليل من ضعف الثقة المعلن، أو المضمر، من قدرة هذه الأحكام السياسية, على مواكبة العصر، وفي بعض الحالات لا يقبل، بعضُ المسلمين، أو يتقبل أن يقلب حياته كليا، وجذريا؛ لتتوافق مع تلك الأحكام الإسلامية التي تقوم الحياة المعاصرة على نقيضها، كتحريم الربا، والاختلاط بين الرجال والنساء، أو الخضوع للحدود, أو لبس الجلباب، أو الحجاب، فيما يتعلق بالنساء، مع أن بعض أولئك الرافضين، أو غير المتقبلين قد تجد منهم من يؤدي الشعائر الدينية، ويؤمن بالجوانب الروحية.

غلبة (الواقعية) على الخطاب الديني السائد:
وعلى صعيد التفسير والتنظير تدخل الكثير من الأفهام المعاصرة للدين وأحكامه، وكيفية تنزيلها على الواقع المعاصر بتعقيداته، من مثل تلك النظرة الفقهية الآخذة بالمصالح، والأولويات والتدرج، ومراعاة مقتضيات الواقع وضروراته، ويمكن أن يمثل هذا الاتجاه الشيخ يوسف القرضاوي صاحب المكانة المهمة والشعبية الواسعة في صفوف الكثير من المسلمين، وقد برز دوره جليا في ثورة مصر الأخيرة.

عمرو خالد وتأثيره في الشباب:
ويكاد التيار (المعتدل) يكون الأكثر تأثيرا في صفوف الشباب المتأثر بالخطاب الإسلامي، ولنا أن نلحظ حجم التأييد الذي يحظى به عمرو خالد، بوصفه أبرز (الدعاة الجدد) الذين يتخذون خطابا أكثر (اعتدالا) وأكثر واقعية، ولذلك يحظى خالد باحترام ملموس في دوائر غربية.

وينظر إليه كصوت يدعو إلى التسامح، بمظهر عصري، ومفردات بعيدة عن العداء للغرب، بتركيزه على البناء الاجتماعي، والإصلاح الفردي؛ ما قد يجفف أسباب الغضب في أوساط الشباب، ويصرف طاقاتهم إلى مجالات إنتاجية متمدنة.

لا دلائل على غلبة خيار المواجهة مع الغرب:
وفي عناصر الحالة الإسلامية، ومما يتحكم بنوعية الخطاب المقبول شعبيا، ذلك التصور الذي يتعلق بشكل العلاقة الإسلامية مع الدول الغربية، هل تكون عدائية، أم تصالحية توافقية؟
فلا دلائل على تغلب الرأي القائل بالمواجهة في أوساط القوى الشبابية التي تقود التغيير
ويستشعر قسم من المسلمين ضعفا ماديا وتقنيا وسياسيا إزاء القوى العالمية المهيمنة على العالم الإسلامي, والمتغلغلة في تفاصيل المجتمعات المسلمة، ولا يرون الفترة الراهنة مؤهلة لمواجهة مع تلك الدول، والقوى والمؤسسات، والأنظمة الدولية المكرَّسة .

وحتى في السعودية التي تستمد جزءا أكبر من قوانينها من الشريعة الإسلامية لا نجد نكيرا قويا، لشكل العلاقات التي تديرها الدولة مع الغرب، والمواقف السياسية الخارجية، وهي التي لا تختلف كثيرا عن أية دولة عربية لا تصطبغ بالصبغة الإسلامية، كسوريا، ولبنان، ومصر, والكويت، ولعل مراعاة (القدرة) أو الرضوخ للواقع الذي تفرض فيه أمريكا والدول الغربية على العالم نظاما دوليا، وأعرافا دولية متجانسة مع الفكر الديمقراطي العلماني هو ما يجعل غالبية المسلمين تصمت عن الدخول في هذه المواجهة.

الجماعات والقوى الإسلامية، إذن، لا تتفق على فهم واحد للإسلام, أو تصور واحد لما يجب أن يكون عليه المجتمع والدولة، فهي بين اتجاهات صوفية يغلب عليها التدين والطقوس، وجماعات إخوانية يغلب عليها الدعوة الإصلاحية والتربوية, وتقبل بالتعايش الديمقراطي والمشاركة السياسية والدولة المدنية... وجماعات سلفية متباينة في نظرتها، بين من يدين بالطاعة لولاة الأمور, ويؤثر النصح السري والرفيق لهم، كلما انحرفوا، وجماعات سلفية توصف بالجهادية والثورية... وجماعات إسلامية تسعى إلى نموذج الخلافة الراشدة في الحكم.

فالأقرب إلى الواقع أن هذه التحولات الجارية في المجتمعات العربية ستبقى ديمقراطية مدنية في المدى القريب، وربما المتوسط؛ لأن المسلمين بين راغب بتحكيم الإسلام كاملا، ولكنه غير قادر، أو غير مُتَّحِد، وبين مسلم مكتف من دينه بالشعائر والطقوس، وإلى أن يتغير هذا الحال تبقى المجتمعات العربية على تلك القواسم المشتركة الأولية والبدهية, من حقوق المواطنة والكرامة الإنسانية.
[email protected].