في العالم العربي نظمٌ تتصف بالشمولية, والاستبداد, والحكم البوليسي، وما تزال تتَّبع أساليب تقليدية في التعامل مع الشعوب، لعل أبشع الأمثلة عليها، ما كان في ميدان التحرير من هجوم بالجمال والخيل، على شباب مثقفين, وملتزمين بالتظاهر السلمي.

هذا المشهد يجسد مقدار التباين بين النظم التقليدية، والشعوب التي صعدت فيها قوى الشباب المستخدِم أحدثَ الأساليب التقنية في التواصل؛ ما يفضي إلى تعميم حالة من الوعي، والحراك الاجتماعي الفاعل؛ فإلى متى يمكن أن يستمر التعايش بين هذين النقيضين؟ بل حتَّامَ يمكن أن يَحتمل كلُّ منهما الآخر؟

والسؤال الضروري هنا: ألا تتوفر فرصة للتقارب بينهما؟
من الناحية النظرية لا نملك يقينا يُسقط احتمال التقارب، فلو بادرت هذه النظم؛ لأنها الأبعد عن روح العصر, ومتطلبات الواقع المعيشي البسيط، لمعظم الناس، لو بادرت بعملية تحديث تطال هيكلية الدولة، وأساليب تعاملها، وفسحت هامشا أوسع للمشاركة في القرار، ولا سيما لفئة الشباب الذي يثبت جدارة متتالية بالمسئولية والجدية والرغبة في بناء المجتمعات, والانخراط الإيجابي في حل معضلاتها، لو بادرت إلى ذلك لاستطاعت الاحتفاظ بزمام التغيير.

ولكن طالما أن غالبية هذه الأنظمة لا ترغب، أو لا تقدر, على الانقلاب على بنيتها السياسية, وتركيبتها القائمة على الاتكاء على قوى مالية وثقافية ودينية، بالتحالف مع من تربعوا على امتيازات مالية بدعم من الدولة, أو ممن يخشون فقدان مكتسباتهم الخاصة، إذا لم يتحالفوا مع السلطة السياسية، وثقافيا باستقطاب ثلة من الطاقات الثقافية، ومثلهم علماء الدين والوعاظ؛ لتنحصر مهمتهم بإضفاء الشرعية على تلك الدول والحكومات، والدفاع عن قراراتها؛ طالما كان هذا هو واقع غالبية الأنظمة العربية فإن هذا التحالف المُوهِم بالقوة- وقد أثبت إفلاسه، كما في تونس، ومصر- لن يصمد في وجه التغيرات الاجتماعية، ولن يصمد، وهو يهمش القطاعات الأوسع من الطبقات الفقيرة التي اتسعت شريحتُها على حساب الطبقة المتوسطة الأكثر أهمية لبناء الدول والمجتمعات، والأكثر ضمانا؛ لبقاء توازنهما.

ومع بروز الإعلام الحر, الخارج عن نطاق الإعلام الرسمي، وغير المفتقر إليه، أصبح تعميم الوعي الحقوقي والسياسي أيسر, وأفْعَل, وأصبح التواصل مع العالم الخارجي, والغربي منه، بخاصة، أكثر إحراجا لتلك الدول الغربية التي ظلت تقدِّم المصالح والاستقرار على القيم الديمقراطية، والإصلاح السياسي, محكومةً بمخاوف تغذيها هذه الأنظمة: أنَّ البديل عنها، هم الإسلاميون المتطرفون، ومستقويةً، كما في مصر، بدورها الإقليمي المهم في المنطقة، وتنظيم العلاقة مع إسرائيل, لرعاية الجهود الأمريكية والدولية الساعية إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي.

هل تنحاز أمريكا إلى التغيير؟
فما الموقف الأمريكي من هذه التحولات المجتمعية، هل تستمر في تجاهلها؟ وهل تقدِّم اعتبارات الاستقرار والمصالح؟ وهل تردعها المخاوف من استحواذ الإسلاميين الراديكاليين؟ وهل يظل رضا إسرائيل المطلق هاجسَها الأهم؟

ليست الدعوة إلى التغيير في الشرق الأوسط وليدة اللحظة في الاستراتيجية الأمريكية، فقد حاولتها إدارة بوش الابن، بعد تفجيرات برجي التجارة العالمية، ولكن الظروف الصعبة التي صادفتها في أفغانستان, والعراق جعلتها, تستجيب إلى توصيات (بيكر- هاملتون)، وتؤْثِر التعاون مع دول عربية، كانت ترى ضرورة تعديلها، أو تغييرها، كما السعودية, وسوريا، ولم يكن الدافع إلى هذا التغيير سياسيا، بالضرورة، ولكنه تمثل بالبعد الفكري, ورغبت حينها في النفاذ إليه عن طريق مناهج التعليم، وغيرها.

بعد هذا النَّفَس الثوري العربي، وتنامي ثقة الشعوب في نفسها، وإفرازها قوى جديدة حية، وغير مؤطرة سياسيا، ولا متشددة دينيا، كان لا بد لأمريكا من الانخراط القيادي النشط في هذه الموجة؛ لاستباقها، وتوظيفها؛ لتصب في استراتيجيتها؛ ولو تذكرنا أن النظم العربية تنقسم، من حيث التحالف مع واشنطن إلى متحالف، ومتظاهر بالتحالف، فإنها لن تأسف على غير المتحالف من ثورة تطيح به، في أجواء من الحرية، تخفف حالة الاحتقان، والكراهية للولايات المتحدة، حين تظهر في موقف الحامي للشعوب، أو المشجع لها.

أما تلك المتحالفة معها فليس تحالفها معها مقدسا، ولا هي ذائبة في غرامها، إنما هي دول وظيفية، هكذا تنظر إليها؛ فإذا ما عجزت عن أداء دورها، أو احترقت laquo;شرعيتُهاraquo; واستنفدت صلاحيتها، فإن واشنطن ستنحاز إلى برغماتيتها، ومصالحها البعيدة المدى.

لكن على أن لا تفقد من السلطة إلا بمقدار ما يسمح بالالتفاف، على تلك الرغبة الحقيقية في التغيير، وما دامت العناصر المهمة في الدولة ترتبط بتحالف معها، أو تفاهم، فإنها تعمل على إدارة الأزمة بصبر، وثقة؛ حتى تنضج تركيبة جديدة تجسد أكبر قدر من التوافقات الشعبية والأمريكية، ففي حالة مصر يقف الجيش, في الحياد، ينتظر دوره، ويقبض على السلطة، وأمريكا تكيل له المديح على هذا الموقف، وتحضه عليه.

الخوف من القوى الإسلامية:
وأما الخوف من القوى الإسلامية فلطالما كانت سببا مهما لإبقاء الأوضاع العربية على علاتها، لكن نظرة أقرب، وأهدأ تُري أنَّ تلك القوى، إما أنها لا تملك قيادة الجماهير، كما هي الحركات الجهادية، والراديكالية، وإما أنها, ولو حازت نسبة لا بأس بها من التحقق الشعبي، كالإخوان، فإنها لا تهيمن على الشعوب، ولا تقبع في منطقة قصيَّة عن الحياة السياسية القائمة على المشاركة، لا التفرد.

ولو أخذنا نموذج الإخوان في مصر، فهم يقبلون في المشاركة مع سائر القوى العلمانية والقومية والشيوعية وغيرها، ولا يصرُّون على دولة دينية، تقوض الحياة المدنية، وهم في أطروحاتهم يتقاطعون مع حزب العدالة والتنمية في تركيا الذي تنعقد بينه وبين واشنطن صلات تعاون واضحة، ولو أنها في حالة الإخوان قد تكون غير مباشرة، أو كلية؛ لأنهم ليسوا المهيمنين على الحكم في أية حال.

ومما يزيد أمريكا اطمئنانا أن المطالب المرفوعة والشعارات التي تتردد على ألسنة الشباب، الطليعة, ليست إسلامية, أو أيديولوجية، حتى، ولا هي كذلك مطالب خارجية، تهدد التعاون مع أمريكا، أو تحاول شيطنتها، ولا هي حتى تتعرض لإسرائيل، بالمطالبة بإلغاء معاهدة السلام معها، فمطالب المتظاهرين داخلية بامتياز.

هذه المطالب المدنية, والداخلية لا تقلق أمريكا، أو لا يُفترض أن تقلقها، في هذه المرحلة بالذات، وفي أوضاع, كأوضاع المنطقة العربية المهددة بتصاعد laquo;القوى الجهاديةraquo; فلو استمرت أمريكا في التغطية على هذه النظم العاجزة عن توفير الحلول الاقتصادية والتعليمية, والحقوقية للمواطن العربي العادي، فإنها ربما تجد نفسها، والنظمَ المتحالفة معها، وقد سُحب البساط من تحت رجليها، لصالح تلك القوى التي لا تَفاهم معها، ولا حوار، ولا إمكانية معها لأية حلول لمعضلة الصراع العربي الإسرائيلي.

وطالما حذر الخبراء والمحللون الغربيون من أن النظم الحالية بتركيبتها المتأرجحة بين الأصولية والحداثة، والعاجزة عن تحسين أوضاع المواطنين العاديين، ستظل بيئة خصبة لنمو التطرف، وتصاعد الأعمال العدائية ضده، وضد مصالحه، في هذه المنطقة الغنية بالثروات، النفطية, وغيرها، والمدججة بالعنصر الشبابي المحتقن، والغاضب، أو المحبط.

موقع إسرائيل من هذا التغيير:
وأما إسرائيل فلا يُتوقع أن تسمح أمريكا بتشكل أية دول جديدة، إذا لم تعطِ تعهدات أكيدة بعدم الاعتداء عليها، وحتى بالتعامل السلمي معها، بالتفاوض، والحلول الوسط، دون أن يعني ذلك أن هذه النظم الجديدة, في حال تشكلت, ستكون على نفس المسافة التي تموضعت فيها النظم المنحلَّة، أو أن تعاملها مع إسرائيل سيكون بنفس التكتيكات, وأن اللهجة المستخدمة ستبقى ذاتَ اللهجة؛ ذلك أن هذه النظم الجديدة من المفترض أن تكون أكثر تمثيلا للشعوب، وأقل ابتعادا عن نبضها، ولذلك فإن قادة إسرائيل لا يُخفون قلقهم من التغيرات التي لا يطمئنهم الموقفُ الأمريكي غير المعادي لها؛ ما قد يضطرهم، أو يضعهم, والمنطقةَ، في أجواء جديدة ليست (مثالية) تماما كتلك التي عاشتها إسرائيل قبلهم.
[email protected].