لعل لبنان والعراق وفلسطين أن تكون أكثر مناطقنا توترا واحتقانا، فالبلدان الثلاثة على اختلاف أسبابها تعيش قلقا حقيقيا، والسبب الظاهري عائدٌ إلى ارتخاء القبضة الأميركية، واضطرارها إلى حلول مؤقتة، وترقيعية. في لبنان يخشى حزب الله من تحجيم أكبر، بعد القرار الدولي الذي اضطره إلى التراجع إلى ما بعد الليطاني، وهو الآن يخوض معركة استباقية يحاول فيها النجاة من قرار الاتهام الظني في جريمة اغتيال الحريري.

وفي العراق ما يزال تشكيل الحكومة، والاتفاق على رئيس للوزراء يراوح دون بوادر اتفاق.
وأما الملف النووي الإيراني فيشهد تراجعا من الولايات المتحدة والدول الأوروبية المعنية من مسار العقوبات التي لا يرونها مجدية إلى استئناف الحوار.

وعلى الصعيد الفلسطيني والتفاوض مع حكومة اليمين؛ ثمة موقف محرج يواجه الرئيس أبو مازن الذي يستغرب المرء في كيفية معالجته للتعنت الإسرائيلي؛ إذ تراه يصعِّد في المواقف، ويتعهد بالثبات عليها، ثم يجد نفسه، وتحت الضغط الدولي، والأميركي تحديدا، ثم الحثِّ العربي الرسمي مضطرا إلى التراجع، وهذا قد يدل على وقوعه بين فكي الرحى؛ فالضغط الشعبي والفصائلي بلغ حدا يصعب احتواؤه بسبب الإصرار الإسرائيلي على مطالب تعجيزية كالدولة اليهودية، ولتنامي الشكوك في جدية النوايا السلمية لحكومة نتنياهو التي تصر على التوسع الاستيطاني في القدس والضفة الغربية.

فما خيارات السلطة الفلسطينية؟
تعلن السلطة أنها لن تلجأ إلى خيار الانتفاضة أو الخيار المسلح؛ فهي لا تراها مجدية، بل ترى أن انتفاضة الـأقصى عام 2000م قد أضرت بالشعب، والقضية, ولذلك هي تستبقي النضال الشعبي، بالتوازي مع التوجه على مجلس الأمن لتدويل القضية، وتحميل المجتمع الدولي مسئولياته. وبالطبع مثل هذا التحرك الدولي لن يكتب له النجاح، أو التأثير المرجو، ما لم يحظ بالدعم الأميركي، أو على الأقل رفع الغطاء الديبلوماسي عن إسرائيل، في مجلس الأمن، بأن لا تستخدم laquo;الفيتوraquo; مثلا، وقد سبق لمقربين من الإدارة الأميركية كـ laquo;مارتن إنديكraquo; أن ألمحوا إلى إمكانية ذلك، في حمأة الضغوط والتصريحات الأميركية الحادة التي أعلنت أن أقامة دولة فلسطينية مصلحة أميركية, ومهمة للأمن القومي الأميركي، بل بلغت حدا أبعد حين ربطت بين مقتل الجنود الأميركيين في العالم الإسلامي والمواقف الإسرائيلية المتعنتة.
خطورة الموقف الأميركي غير الحازم:

لكن الموقف الأميركي هذه الأيام قد اختلف؛ لأسباب قد تعود إلى قرب انتخابات الكونغرس، وقد تعود إلى عدم قدرة الرئيس أوباما على حشد القوة الكافية في داخل المؤسسة الأميركية؛ لمواجهة جماعات الضغط الموالية لإسرائيل.


لكن هذا التعاطي الأميركي مع القضية الفلسطينية يبدو خطرا؛ لأنه يكتفي بالضغط على الطرف الفلسطيني إلى حدود مقلقة، في الوقت الذي تكاد الأطراف الدولية تجمع على تنكر الحكومة الإسرائيلية للاستحقاقات السلمية، وفي الوقت الذي يرى فيه العالم استفزازات المستوطنين، واعتداءاتهم، المحمية من الحكومة الإسرائيلية، أو المتهاونة معها، أو المسايرة لها. وفي الوقت الذي تشدد فيه حكومة نتنياهو قبضتها على القدس وأحيائها؛ بمنع الناس من الصلاة في المسجد الأقصى إلى أقصى درجات المنع؛ فليس مستغربا، والحالة هذه أن تنفجر الأوضاع، أو تتوسع مظاهر الاحتجاج في القدس.

فالاحتقان والتراكمات والاستفزازات الإسرائيلية الرسمية، أو الاستيطانية المنفلتة، أو المسكوت عنها تجعل من مسألة الضبط الذي تقوم به الأجهزة الفلسطينية مسألة غير مضمونة إلى أمد بعيد.

فهل التنفيس يغني عن الحل؟
صحيح أن ثمة آليات للتنفيس، تنتهجها السلطة، من مثل اللجوء إلى الحوار مع حماس، أبرز القوى الفلسطينية المعارضة؛ للتخفيف من حدة الاعتراض السياسي، وثمة آلية على المستوى الشعبي تتمثل بالاستقرار الاقتصادي النسبي، وهو ما يخفف من حدة الغضب، حين ينشغل الكثيرون في مشاريعهم الخاصة، واهتماماتهم المعيشية الذاتية، لكن تلك الآليات تبقى مؤقتة؛ فسرعان ما يعود الحوار مع حماس إلى العقبات إياها من اعتراف صريح بإسرائيل، ونبذ صريح للعنف، والتزام بالاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير، ثم الانخراط في تلك الاتفاقات ومتطلباتها، من تنسيق أمني وتعاون مباشر مع إسرائيل، وهي أمور جديرة بإفراغ حماس من أي محتوى.

وأما الأحوال المعيشية المتعافية فقد لا تقوى على تجاهل مخاطر واستفزازات تمس المقدسات، أو تهدد المصير الفلسطيني بشكل واضح.

تآكل صدقية المفاوضات:
والحقيقة أن من يتابع خط المفاوضات التي انطلقت منذ مؤتمرمدريد1991م لا يجد بدا من التشكيك فيها، لقد تآكلت صدقيتها بسبب خلل بنيوي في هذه العملية السلمية الأشد تعقيدا، فبعد كل هذا العناء، واللقاءات التفاوضية، والمقترحات، والمشاريع، تعود المفاوضات إلى المربع الأول، بل ربما إلى ما قبل الأول، ففي الحكومة الإسرائيلية اليوم مَنْ لا يقبل بمبدأ الأرض مقابل السلام، والموقف الرسمي للحكومة يشترط الاعتراف بيهودية الدولة؛ ما يعني التمهيد لطرد العرب منها، أو نقلهم إلى مناطق السلطة، ضمن اتفاقات تبادل السكان والأراضي، بضم المستوطنات الكبرى، وإعطاء الفلسطينيين نسبة تُقاربها في صحراء النقب، مثلا.

وثمة اختلافات جوهرية حول ترسيم الحدود للدولة الفلسطينية الموعودة، وثمة مطالبة من نتنياهو باستبقاء الأغوار تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.

وفوق ذلك تعتري المجتمع الإسرائيلي نزعة نحو اليمين المتطرف، وتراجع للقوى اليسارية، ولهذا أصداؤه على الجانب الفلسطيني، تشددٌ بتشدد، وهنا يتداخل- في ظل غياب قوى دولية قادرة على فرض السلام، أو الضغط على إسرائيل- السياسي بالأيديولوجي بالديني.

الضعف العربي، وشواغل إسرائيل:
هذا وإنَّ قاصمة الظهر لكل الحلول السلمية laquo;المعقولةraquo; هو الضعف الفلسطيني والعربي الذي لا يقوى على إحداث انعطافة جدية في التعامل الأميركي مع القضية الفلسطينية العربية، وهذا الفراغ يتيح لإسرائيل أن لا تحمل العرب على محمل الجد، وهي لذلك لا تبدو فعليا منشغلة إلا في مجالين، هما التفوق الأمني، والرقابة الدائمة للقوى الناهضة، أو النامية في المنطقة؛ بغية تدميرها، أو تحجيمها، وهذا العامل يتقدم، بل ويقفز على كل الخيارات الأخرى والاعتبارات الجانبية.

ومجال اهتمام إسرائيل الثاني هو الأرض والموارد، ولا سيما في الضفة الغربية والقدس، وهذا يمثله الاستيطان الذي لم يتوقف منذ بدأ مع نهاية حرب 67م واشتد بعد معاهدة السلام مع مصر 1979م واستمر مع تعاقب الحكومات الإسرائيلية، وتباينها، يسارا، ويمينا، وحتى تلك التي دخلت في تفاوض مع الطرف العربي والفلسطيني لم توقف الاستيطان، وفي هذا الوقت الذي أصبح فيه الاستيطان في بؤرة الاهتمام الدولي والعربي والفلسطيني، والكلُّ يراه عقبة أمام عملية السلام، ولا يتفق معها، لا واقعيا، ولا موضوعيا، ما تزال إسرائيل مصرة على الاستمرار فيه؛ ليكون هو المفارقة الساطعة الكاشفة عن شواغل هذه الحكومة، على أقل تقدير.

وحتى لو توصلت الأطراف إلى حل وسط بشأن الاستيطان يتضمن تجميدا جزئيا له، وحصره في التجمعات الكبرى التي تنوي إسرائيل ضمها إليها في الحلول النهائية؛ فإن نجاح ذلك، عمليا، يتوقف على توفر جدية في التعامل الإسرائيلي مع قضايا الحل النهائي، كالحدود والقدس واللاجئين والمياه، وقبل ذلك يتوقف على توفر إرادة إسرائيلية حقيقية نحو حلول دائمة في المرحلة الحالية، وليست حلولا، كالسلام الاقتصادي الذي تأمل أن يتيح لها المضي في مشاريعها، بشيء من الهدوء والضبط.

إن الطرف الفلسطيني؛ إذ يلوذ بالعرب، والجامعة العربية، إنما يحاول اصطناع غطاء لهذا التأزم الذي يواجهه، وإن الطرف العربي، لم يعد، بتشرذمه، وهشاشة مكانته الدولية، وأزمات أعضائه الداخلية، والمخاطر الخارجية التي تهدده في العراق، وفي لبنان، وفي السودان، وفي اليمن، لم يعد قادرا إنتاج مواقف حقيقية؛ فهل من خيارات جديدة؟
[email protected].