هنا بحث في نقطة محددة، هي علاقة الجماعات الإسلامية بالإسلام بصفة عامة، وعلاقة الإخوان المسلمين به، بخاصة؛ وهل يصح أن تدعي جماعة، أو تقترب من الادعاء بأنها والدين سواء؟! مَنْ خالفها فقد خالف الدين, ومن خرج منها فقد ارتد عنه.
كان المفترض أن لا يكون هذا السؤال محلَّ بحث؛ لوضوح إجابته، ولكن إيهام بعض الجماعات بالتطابق يقتضي التفريق؛ ليحقق هذا التفريق فائدتين رئيستين، الأولى: رفع أية قداسة عن تلك الجماعات، وتعريضها للمساءلة، في مدى التزامها بالدين، أو بما تقول هي أنه من الدين، لتكون بذلك كمن تحاسبهم من الناس، بل أكثر؛ للصفة التي تدَّعيها؛ فهي اتخذت دور القوامة على الدين والبشر. وأحيانا تعدَّت هذا إلى دور المستحوذ على الدين، والناطق الرسمي باسمه!
وأما الثانية فهي أن التفريق بين تلك الجماعات والدين يُعفي الدين من مسؤولية أخطائها فيه، أو توظيفها له؛ فكثير من الناس يعزفون عن الدين، لردة فعل قاسية تسببت بها جماعة ما، كتلك التي تنتهج القتل العشوائي، أو تلك التي تنطبع بالتعصب، وازدراء الآخرين، أو تلك التي تنخرط في مصالح اقتصادية تغلب على اعتبارات الدين والمصلحة العامة.
والحاصل أن الفرق بين الدين وحامليه كالفرق بين اللغة والكلام، فاللغة هي القوانين اللغوية المجردة، والكلام هو خيارات المتكلم من اللغة، فهي من صنعه، سلامةً وخطأ، وجمالا وقبحا، وكذلك الدين ثمة أحكام له واضحة، دعك من خلافيَّاته، وفروعه الظنية، هذه الأحكام تغدو حَكَما على مدعي التلبُّس بالدين.
فأين تقع الحركات الإسلامية والإخوان من هذه المسألة؟
قد لا نجد من يقول بعربيةٍ فصيحة: أنا الدين، والدين أنا، ولكنا أيضا نجد من يقترب من هذا، قولا, ونهجا, وعملا! ونحن هنا إذا سلطنا الضوء على الإخوان، فلا يعني تبرئة سواها من هذا؛ فالمسألة بحاجة إلى تحقق، ورقابة من تلك الجماعات لنفسها، قبل غيرها، هل تقول إن أفكارها هي نتاج اجتهاداتها المعرَّضة للخطأ، كما اشْتُهر عن كبار الأئمة، من مثل قول الشافعي:laquo; رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصوابraquo; ومن مثل قول مالك:laquo; كلُّ إنسان يؤخذ من كلامه ويرد، ما عدا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلمraquo;. أم أنها تمارس سلطة أكبر منها، من تأثيم الناس وتكفيرهم، وتخوينهم؛ لمجرد أنهم لم يقولوا بقولها، أو اختلفوا معها، أو لم يسبحوا بحمدها صباح مساء، مثل هذه الأمور لا تقال صراحة, ولا يتجرأ الواقعون فيها على التصريح بها، لكن التربية التَّعصُبيِّة المقيتة هي التي تفضح هذا الخلل، حين تفرز أفرادا كُثْرا بعقليات منغلقة، ومعتقدةً احتكارَ الصواب والمعرفة، تتسرع في أحكامها، تمتلىء غضبا، وهوى يؤثِّر في تقويماتها، أو يستبد بها! شَعَرتْ بذلك، أم لم تشعر، واعترفت به، أم لم تعترف.
فهل وقعت جماعة الإخوان في هذا المنزلق؟
يقول حسن البنا في مذكراته ص 193: laquo;منهاج الإخوان المسلمين:
أ - اعتبار عقيدة الإخوان رمزًا لهذا المنهاج. ب- على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج كله من الإسلام، وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة.!!!raquo;.
العبارة الواردة في الفقرة الثانية التي تطلب الاعتقاد بأن هذا المنهج هو من الإسلام مقبولة، وفق المرجعية الإسلامية؛ لأنه لو فُقد هذا الاعتقاد فلا معنى لانضمام المسلمين الراغبين في الدعوة إلى الإسلام إلى الجماعة؛ فمبتغاهم المفترض هو الإسلام، حصرا، والدعوة إليه.
ولكن الخطورة تكمن فيما يلي: laquo; وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحةraquo; فهي تعني أن أي انتقاص من منهج الجماعة هو انتقاص من الفكرة الإسلامية؛ ما يعني المطابقة بينهما.
وخطورة المقتبس أعلاه، من أمرين، الأول أنه تأصيل للجماعة، يطبع نهجها، ويحدد رؤيتها لغيرها من أفراد المسلمين, وجماعاتهم.
والثانية كونه يصدر من مؤسس الجماعة، وإمامها ومرشدها، ما يعني أنه لو وجد من يخالفه في صفوف الجماعة، من منظريها اللاحقين، على فرض ذلك؛ فإنه لا يلغي هذا المعنى، ولا يمحو آثاره في عقلية الجماعة وأفرادها.
وقد لحظنا, هذا النهج عمليا في سلوك الجماعة، وتعاطيها مع غيرها... إذ هي صوت الإسلام، وهي صوت الحق، وعلى الجميع أن ينضوي تحتها، أو ينخرط في صفوفها؛ لأنها تمثل الإسلام!
فمن أين جاء هذا الاستعلاء؟! بالرغم من أن روح الإسلام ونصوصه على غير هذا؟!
في الإسلام ثمة مجتهدون، واجتهاداتهم محل خطأ وصواب، وهم لم يقولوا يوما إنهم يمثلون الدين، طبعا هذا وفق المذهب السني، وثمة في المذهب الشيعي ادعاء العصمة للإمام, وللحجج والمراجع الدينية.... وهنا مسألة متصلة، هي:
هل الإخوان جماعة المسلمين، أم هم جماعة من المسلمين؟
والفرق واضح، وما يترتب عليه كذلك واضح. وlaquo;جماعة المسلمينraquo; مصطلح ورد في أحاديث عديدة. ويختلف الشارحون في معنى laquo;الجماعةraquo; الواردة في الأحاديث النبوية، ومنها ما رواه البخاري، وفيه:laquo;... قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك ؛ قال: quot; تلزم جماعة المسلمين وإمامهم quot;. فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: quot;فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلكraquo;. وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، مرفوعا: laquo; مَنْ خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليةraquo; فما الجماعة التي إن فارقها المسلم خرج من الإسلام، وأصبح مرتدا؟
من الشارحين من ذهب إلى أن الجماعة في الأحاديث تعني المسلمين وإمامهم، ومنهم من رأى أنها السواد الأعظم، ومنم من رجح أنها تعني الصحابة، laquo; وقال قوم: المراد بهم أهل العلم؛ لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تَبَعٌ لهم في أمر الدين raquo;. وقال الطبري:laquo; والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعةraquo;. والمرجح وفق قسم من العلماء أنها تعني السواد الأعظم. وعلى فرض أنه يفهم من قول الطبري أنها تشمل أية جماعة إسلامية يبايع أفرادها أميرا لهم، فثمة نقاش، ومنه ما يتعلق بالبيعة.
إذ من المفروغ منه أن هذه البيعة للأمير التي قصدها الطبري ستكون على الطاعة. وهنا مسألتان، الأولى: هل هذه البيعة تشمل أمراء الجماعات الإسلامية؟ والثاني: يتعلق بمفهوم الطاعة لله الذي يشترط طبيعيا، هل ثمة دلائل يقينية أن هذه الجماعة دون سواها هي الطائعة، أم أنها اجتهادات ظنية؟
والجواب على الأول: أن البيعة لا تشمل أمراء الجماعات، في الرأي الصحيح؛ لأن لفظ البيعة الوارد في النصوص، بمعناه الفقهي لم يرد لأمير جماعة، بمعنى حركة، أو حزب، وكل الأحاديث الواردة في البيعة إنما كانت موجهة إلى الإمام، أو إلى من فوضه الإمام بالإمارة.
والجواب عن الثاني: أنه لا دلائل يقينية على أن جماعة ما هي التي تتطابق مع الدين، وتتمثله، أو تتلبس به، أو تتماهى فيه. وهذا أمر لا جدال فيه؛ لأن القرآن الكريم، المصدر التشريعي الأول، حمَّالُ أوْجُه، ولأن السنة الشريفة، المصدر الثاني، كثير منها ظنيٌّ في ثبوته إلى الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- وظنيٌّ، كذلك في تفسيراته، وما يستنبط منه من أحكام تعلنها الجماعة، وتتخذها مقياسا لها، ولغيرها ظنيٌّ، لا يقيني؛ فلا تستطيع جماعة أن تدعي أنها على الصواب القاطع، وكيف يكون ذلك, وقد تعددت الجماعات الإسلامية؟! فهل كلها, على تناقضاتها، هي الدين؟!
لذا فلا يعقل أن يكون خروج الناس من جماعة الإخوان، مثلا، ردة عن الدين, ولا الخروج عن غيرها من الجماعات؛ بل لا يعد الخروج عن الإخوان فسقا، أو عصيانا، ولا يعد الانتقاص مما تقول انتقاصا من الفكرة الإسلامية.
فمن أين جاء القول بأن الإخوان هم الأصل، وهم الحركة الأم، وكأن من يخرج من إطارهم، أو ينشىء جماعة بعدهم، قد خرج على الأصل، وهو محل تشكيك، في نواياه، ومحل هجوم، على أعماله، واضطهاد لنشاطاته الدعوية...ومن أين أيضا جاءت السلطة التي تمارسها بعض الجماعات، وأفراد منها أنهم الحاكمون على أفعال الناس، والمصنفون لهم. وكل ما في الأمر, وفق المنظور الإسلامي أنهم جماعات تعرض ما لديها، وتدعو له، وتحاول إثباته، وإقناع الناس به؛ فهي جماعة من الجماعات، ورؤية من الرؤى، لا أكثر ولا أقل.
[email protected].
التعليقات