لا تقتصر الأزمة في استقطاب الجماهير على تنظيم القاعدة؛ فثمة عزوف، أو تراجع في العالم العربي واضح عن الانخراط في العمل السياسي الجماعي؛ نتيجة عوامل، لعل أبرزها كثرة الخيبات التي منيت بها تلك الجماهير فيمن علقت عليهم آمالا عراضا، وغلبة الهموم المعيشية الآنية على الهموم العامة.

ولكن تنظيم القاعدة، وقد صادف نشوؤه، تناميا للظاهرة الإسلامية فقد كان من المفترض أن يَفيد من هذه الطاقة الدينية التي تجتاح أوساط الشباب، بالقياس إلى فترات سابقة كانت فيها الساحة للجماعات غير الدينية من ماركسية وقومية وعلمانية.

نفور الناس من خطاب القاعدة مردُّه إلى التباين الفكري:
غير أن للفئة المتدينة من العالم العربي التي تستهدفها القاعدة عناصر تكوينية يمكن أن تكون مما يمنع الاستجابة إلى نداءات التنظيم، ومحاولات تجنيده.
قد يقال إن تنظيم القاعدة لا يحتاج، ولا يُعنى بأعداد كبيرة من الأعضاء؛ لأن طبيعة أعماله، وأهدافه تنجز بالقليل منهم.
وهذا إن صح، على مستوى إنجاز تلك العمليات، كما لحظنا مؤخرا في الطرود المفخخة التي أحدثت دويا مقلقا في العالم، والغربي منه، على وجه أكبر؛ فإن ما يلزم القاعدة؛ حتى يتجذر فكرُها، وتُحتضن دعاويها أكثر من عدد محدود من العناصر المؤمنة بفكرها، والمرتبطة بها بصفة مباشرة، أو غير مباشرة، لماذا؟

لأن القاعدة أصلا، تعاني شرعية مشككا فيها، وتفتقد إلى المرجعيات العلمية الراسخةِ الفقه، والتأصيل الشرعي، لكل تلك الأعمال الواسعة النطاق، والخطيرة النتائج، والتداعيات.

فالقاعدة بحاجة إلى قبول شرعي في أوساط الأمة الإسلامية، والعرب؛ لأن ما تنادي به صادم لقناعات الكثيرين من المحافظين الذين لا يرون في النظم الحاكمة في العالم العربي نظما كافرة، ولا يرون في هذه الديار التي يرتفع فيها الأذان، وتقام فيها الشعائر الإسلامية دار كفر.

بل إن قسما كبيرا من المسلمين لا يزالون يرون في الحكام ولاةَ أمر تجب طاعتهم، ولا يجوز الخروج عليهم، وقسم من الجماعات الإسلامية وأتباع المذاهب الفقهية لا يجدون أنفسهم محتاجين إلى الانقلاب على هذه الحكومات، بقدر ما يحاولون إصلاحها، جزئيا، بانتقاد بعض ممارساتها، والاعتراض على بعض التشريعات والسياسات؛ فما يزال مفهومُ طاعة ولي الأمر فاعلا في هذه الأوساط، وما يزال الخروج عليهم لا يستقطب إلا أعدادا من الشباب المنفعل، أو المحبط، أو الراديكالي التفكير بطبعه.

وبالإضافة إلى العوامل السابقة التي تعود إلى العقلية السائدة، للفئة المستهدفة، فإن ثمة أسبابا ترتد إلى تنظيم القاعدة نفسه.

الأسباب العائدة إلى القاعدة:
لعل من أوَّلِها النهجَ الدموي الذي لا يراعي ضوابط شرعية، ولا يفرق بين عسكريين ومدنيين، بأسلوب استعراضي، ولمآرب خاصة؛ بتوظيف القضايا الحساسة، والجدلية، من مثل النفوذ الغربي في البلاد العربية، والتواجد العسكري، وكذلك الاحتلالات الأجنبية، ومن أبرزها فلسطين، وكذلك العراق، وأفغانستان، وكشمير، وغيرها.
لكن هذه الشعارات، والمسوغات لا تفعل فعلها، لغير سبب منها:
افتقار القاعدة إلى منهجية واضحة ومؤصلة، وسواء كان ذلك مقصودا؛ ليمنح التنظيم وزعيمه أسامة بن لادن فرصة للتغيير والتحرك، وفق المتغيرات، أو أنه لغموض حقيقي في الرؤية فإنه ينزع عن القاعدة استحقاق القيادة للأمة الإسلامية الذي تحاول اقتحامه؛ لأن مثل تلك الأهداف لا تحتمل الغموض، ولا يمكن أن تُبنى مشاريع سياسية على هذا المستوى بمثل هذا الغموض والفوضى. فضلا عن كون الافتقار إلى رؤية واضحة يعرِّض هذا التنظيم للانشقاق، والتناقض، كما يعرضه للوقوع في مخاطر ومخالفات لا يمكن الدفاع عنها، وهذا ما وقع منه في العراق، مثلا، أيام laquo;أبو مصعب الزرقاويraquo; وأتباعه؛ ما اضطر ابن لادن إلى التبرؤ من بعض أعمال أتباعه، والظهور بمظهر المنكر لها، والموجه لأتباعه فيه.

ابن لادن يلبس ثوبا أكبر منه:
ومن مظاهر الاضطراب الفكري، أو نتائجه كذلك محاولة القاعدة التهويل والتضخيم الذي يُفقدها الصدقية والرصانة في أعين الكثيرين؛ إذ يقتعد ابن لادن مكانَ رئيس الدولة، بل يتشبه بالرسول عليه الصلاة السلام، وهو يخاطب الملوك والرؤساء، فيما هو مغيَّب، أو مطارد في الجبال، لا يلوي على شيء.
ولم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد انتهج هذا العمل السياسي إلا بعد أن أصبح رئيسا فعليا لدولة حقيقية، وفق الواقع السياسي للدول آنذاك.

بعد القاعدة عن نبض الناس الواقعي:
تعمل القاعدة على استغلال مناطق التوتر والاضطراب، وضعف سلطة الدولة المركزية؛ لتقنع من تستطيع بأن خيارها أفضل من خيار الدولة، ومن خيار القوى الغربية، وهي تحقق نجاحات معينة في مثل هذه البيئات، كما في اليمن، مثلا، ولكنها في معظم المناطق العربية تعاني اغترابا بينا، سواء على صعيد فكرها البعيد عما عليه غالبية المسلمين، والثاني على صعيد بعدها عن اهتمامات الناس القطرية واليومية، وتقديمها الاهتمامات الأممية عليها، أو اغترابها عن النبض الحقيقي للناس، أو حجم القضايا، وأولوياتها، فضلا عن انتهاجها وسائل منفرة، ودموية، واعتمادها خطابا حادا، ومغاليا، في كثير من الأحيان، وهو الأمر الذي لا يحبذه غالبية الناس، وينفرون منه.

تهديد المسحيين:
وقد كان الهجوم على كنيسة سيدة النجاة في بغداد، والتهديدات التي أطلقتها لكل المسحيين، مثالا على هذا النوع من التعاطي مع القضايا المتنازع عليها، ومنها الخلاف بين المسلمين والأقباط في مصر، على خلفية القبطيات اللاتي يعتقد النشطاء المسلمون أنهن أسلمن، ويمنعن من ذلك، بالقوة.

فقد جاء في بيان laquo;دولة العراق الإسلاميةraquo; بعد المذبحة: laquo;إنّ وزارة الحرب بدولة العراق الإسلاميّة تُعلن أنّ كلّ المراكز والمنظمّات والهيئات النّصرانيّة رؤوساً وأتباعاً، أهدافٌ مشروعة للمجاهدين حيثما طالته أيديهمraquo;.

إذ إنه بقطع النظر عن حجم القناعة بوجود اضطهاد ديني تمارسه الكنيسة القبطية بحق من يردن الإسلام، وبقطع النظر عن الرأي في الخطاب الذي يتبناه الباب شنودة تجاه المسلمين في مصر؛ فإن ردة الفعل التي وصلت إليها القاعدة، من تهديد كل النصارى لقي استهجانا من عامة المسلمين؛ حتى صرح البابا شنودة بأنlaquo; تهديد تنظيم القاعدة في العراق لطائفته شر حوله الله خيرا، من خلال تحوله إلى تعاطف ديني وسياسي وأمني لصالح الأقباط.raquo;.

حتى فلسطين لم تسعف القاعدة:
وبالرغم من كون القضية الفلسطينية من أكثر القضايا التي يدأب التنظيم على توظيفها، إلا أنها، وبالرغم من كونها تمر بأعسر حالاتها، ومنذ سنوات، وأشدها استفزازا للمشاعر، حيث الإحباط من المساعي السلمية بلغ أوجه؛ فإن القاعدة لم تفلح في قيادة الأمة الإسلامية، كما تطمح من خلال هذه القضية. الأمر الذي يدل بأن القناعات الأعمق في المسلمين ما زالت أكثر فاعلية من خطابات شعاراتية، وأعمال متفرقة، وغير منضبطة، هنا وهناك.

ولذلك يحاول تنظيم القاعدة أن يستعيض بالمعركة الإعلامية، والعمليات غير المكلفة، بشريا، أو ماليا، عن محدودية انتشاره الواقعي، وعن هامشية المدى الذي تشغلها أفكاره في قطاعات المجتمعات العربية، والإسلامية.
[email protected].