بلغ عدد المشتركين في موقع التواصل الاجتماعي، الفيس بوك، نصف مليار حول العالم، في شهر يوليو/ تموز الماضي، وأعلن الموقع بداية العام الجاري أن عدد المشتركين العرب قد بلغ نحو 70 مليون مشترك، وأن نسبة الإناث فيها 65 في المائة. و تعتبر مصر هي الأولى في الشرق الأوسط استخداماً للفيس بوك. وهو خامس أكثر المواقع زيارة في السعودية، حسب تصنيف موقع أليكسا؛ وبغض النظر عن دقة هذه المعلومات، أو ثباتها؛ فإن المؤشرات المتنوعة لا تدع مجالا للتشكيك في مكانة هذا الموقع عربيا؛ فماذا يمثل هذا الفيس بوك بالنسبة للعرب؟ وهل يمثل الفيس بوك للعرب باختلافاتهم، فكرا، وثقافة؟ ولمَ يلجأ إليه العرب؟

بالرغم من انتفاء علمي بإحصاءات دقيقة تكشف عن مقدار الزمن الذي يقضيه المشتركون العرب في الموقع فإن شعبيته, وجاذبيته، تسمح لنا بافتراض أنه يشغل وقتا ملحوظا, وإن بتفاوت، من أوقات المشتركين العرب.

وليس أدل على ذلك من النتائج التي يحدثها على غير صعيد، ولعل أهمها الاجتماعي والسياسي، وقد بلغ تأثيره حدا جعل لجنة الفتوى في الأزهر تصدر فتوى تحرم الدخول إليه؛ لما سببه، بحسب رأي اللجنة من حالات طلاق في مصر.

وعلى الصعيد السياسي نجح هذا الموقع في أن يكون مؤثرا، عربيا، ومن الأمثلة على تأثيره ما أحدثه في الحياة السياسية في مصر، خاصة بعدما أنشأت مجموعة على الموقع دعت فيها إلى إضراب يوم 6 أبريل/نيسان 2008م، وشارك في هذه المجموعة أكثر من 71 ألف شخص، وعلى الجانب الآخر قام شاب آخر بإنشاء مجموعه أخرى تسمى laquo;نعم لجمال مباركraquo; يرفض فكرة الإضراب، ويؤيد جمال مبارك نجل الرئيس المصري حسنى مبارك- وفق موقع ويكيبيديا- وهذه المعطيات تدل على اعتراف الأطراف السياسية في مصر في المعارضة، وفي غيرها، بأهمية هذا الموقع وتأثيره. وما حظْرُه من بعض الدول، رسميا، ومنها سوريا، ولو شكليا، إلا مؤشر آخر على تأثيره، ولو سلبا. وعندما ينجح الموقع في استقطاب عدد من المسؤولين والوزراء العرب، فضلا عن كبار الكتاب والشعراء والمثقفين العرب فإن هذا يدل على سعة الشريحة التي تهتم به عربيا.

فما حظه من الافتراضية والواقعية؟
يهوِّن البعض من هذا الموقع، حين ينعته بالافتراضي؛ ما يعني الاستهانة بآثاره الواقعية.
وفي تقديري أن هذا التوصيف ليس دقيقا؛ إذ ثمة شخصيات سياسية عربية، وثقافية، وفنية، تشترك في هذا الموقع عبر صفحات خاصة بهم، تمكِّن من التواصل بهم، والتفاعل معهم. وثمة نشاطات اقتصادية تمارس من على صفحات هذا الموقع، وثمة فرص للعثور على أعمال، أو وظائف، لقد غدا ببساطة موقعا للتواصل والتعريف الحقيقي، كما اغتدى وسيلة نشر ثقافي وأدبي، ووسيلة ترويج اقتصادي، كذلك، على مستوى الأفراد، والمؤسسات.

ما أسباب شدة الإقبال عليه؟
ولعل من أكثر ما يستوجب التحري عنه هنا هو السبب في كثرة الإقبال عليه عربيا، إذ بالرغم من اعتقاد الكثيرين بأنه موقع لجمع المعلومات والمراقبة، إلا أن مزاياه تغطي عندهم على تلك المخاوف؛ فيندفعون نحوه.

ومن أبرز ما يميزه الحرية، سواء في النشر , أو التعبير عن العواطف والمشاعر، ولا سيما بين الجنسين، وهي المحكومة بقواعد ليست سهلة في معظم الدول العربية... وما يتيحه لك هذا الموقع من شرائح واسعة من أصدقاء متعددي المواهب، ومتنوعي الخبرات، وفق آلية تمكنك من التواصل أو عدمه، وتحديد شكل التواصل وآليته... وهو بهذا المعنى يوسع عالمك... ويوسع دائرة اختياراتك.

إنه بهذا المعنى متنفس مهم عن حالة الضغط والكبت التي يعيشها كثير من العرب، سياسيا وثقافيا، وعاطفيا. وهو بذلك محل للتعويض عن تلك الإخفاقات التي يصادفها الكثيرون في الواقع والحياة العربية.

فهل هو ملاذ, وبحث عن المفتقد؟
وعلى الرغم من فوائده، إلا أنه إذا مثَّل مهربا، أو مضيعة للوقت، وتبديدا للعواطف؛ فإن ضرره سيغدو أكبر من نفعه؛ ويكفيه حين ذاك ضررا أنه يخطفك من الحياة الحقيقة الحية، ويستحوذ على وقتك؛ فهو باتساعه يُضيِّق، حين يغطي على مزايا العلاقات الحية، ولكن الفيس بوك يصبح ضروريا، إذا أصبح خادما للحياة الواقعية، ومكملا لها.

وهنا ملحوظة يُوضحها الفيس بوك، ولا يختص بها، وهي قلة الحماسة من قبل الشباب للمواد السياسية التي تُطرح فيه، اللهم إلا الساخن منها، أو اليومي، في مقابل اهتمام واضح وتفاعل نَشِط مع النتاج الشعري والأدبي، وقُلْ مثل ذلك, وأكثر عن المواد العاطفية. ولا يخفى أن ذلك يعكس ظاهرة عامة تكشف عن نفسية هذه الشرائح التي يجمعها هذا الموقع من العرب، وهذا قد يؤكد نظرة المرتادين لهذا الموقع، وما يريدونه منه؛ فقسم لا بأس به منهم يفر من السياسة والصراعات المجتمعية والإقليمية إلى هذا الموقع؛ فهو يريده تعويضا عن عالم آخر يفتقده في الواقع، وهناك قد تلحظ العرب أكثر تهذيبا، وأكثر رومانسية، في الأغلب.

الفيس بوك كاشف، أم سبب؟
وأما ارتفاع حالات الطلاق، وارتفاع نسبة الخيانات الزوجية، فليس الفيس بوك هو المتسبب بها، ولكنه الكاشف عن خلل في البنية الاجتماعية، وفراغ فكري، أو عاطفي في أولئك المتورطين، فيسبوكيا.

ولم تكن تلك الفتوى التي حرمت الدخول إلى الفيس بوك على نظر صحيح، بقدر ما بالغت في المخاوف، وفعَّلت بدرجة عالية قاعدة سد الذرائع؛ إذ لا يصح تحريم أمر لمجرد أن بعضهم يتوسل به إلى الحرام؛ وهل من شيء لا يقبل ازدواجية الاستعمال، سلبا، وإيجابا؟!

وأكثر غرابة تلك الدول التي ما تزال تحظر الفيس بوك؛ إذ مثلما كشف هذا الموقع عن هشاشة البناء النفسي والأسري لدى بعض العرب؛ فإن الحظر السياسي، إن وجد فعليا؛ فهو يكشف عن انغلاق، ومعاندة للمتغيرات الإعلامية التي لم تعد تسمح بالحجب.
[email protected].