وجه الأسير مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة (فتح) في آخر تصريحاته، انتقادا لكل من حركتي فتح وحماس، وقادة الفصائل الفلسطينية كافة، بسبب ما وصفه سيادة الذهنية السلطوية، على حساب ذهنية التحرر الوطني، دون أن تقدِّر تلك الفصائل والقيادات الأخطار التي تحيط بالقدس، ودون أن تنتبه إلى أن السلطة في الضفة الغربية والقطاع- بحسب البرغوثي- تخضع إما لاحتلال مباشر, وإما لاحتلال غير مباشر.

على وقع هذه التصريحات نبحث في الحالة الأخلاقية العربية، وكيفية تداخلها مع الثقافية والسياسية؛ إذ ثمة جدلية بين الفكر والأخلاق، أيهما يسبق الآخر، ويؤثر فيه، هل الفكر المسنود بالحجج المقنعة هو الذي يطوّع الأخلاق، ويوجهها، أو يكوِّنها، أم أن الخلق والطبع هو الذي يؤثر على نوعية الفكر الذي يتبناه المرء، ويدعو له؟

من يميل إلى الفكر يقول إن للفكر، ولا سيما المستند إلى الحجج، والشواهد الحسية، سلطانا لا يكاد يُقاوَم، على النفس، ولو حاول الطرف المخالف المكابرة، أثناء النقاش والجدل، ولكنه؛ إذا لم ينجح في نقض الفكرة الوافدة، وتفنيد حججها؛ فإنها ستظل قادرة على التسلل إلى عقله، ولا يلبث أن يكررها، دون أن يدري، أو يقصد.

وأما من ينصر الخُلُق على الفكر، ويجعل اختيارات الإنسان الفكرية محكومة بنوعية أخلاقه؛ فإنه يستدل بحالات كثيرة من حياة البشر الذين يضربون بقناعاتهم عُرْض الحائط، حين يرونها غير متجانسة مع السائد، ولو كانوا أمضَوْا زهرة شبابهم في النضال من أجلها والكفاح، وضحوا في سبيل تلك الأفكار التي رأوها يوما الوصفة السحرية لمعضلات بلدانهم. وهذه ظاهرة نلحظها على كثير من المثقفين العرب الذين تحولوا عن أفكارهم اليسارية، أو الإسلامية، أو غيرها، وانخرطوا في الواقع، بل وتسنَّموا مواقع قيادية فيه أحيانا.

وهنا قد يثور سؤال: هل كان تحوُّل هؤلاء المثقفين عن قناعاتهم السابقة، نتيجة إعادة نظر، ونضج حالتهم الذهنية والثقافية، أم نتيجة تعبهم، وإدراكهم المتأخر أن مثل تلك المعارك الفكرية والرؤيوية لا نفع منها، ولا تؤدي إلا إلى الحسرة وضياع الحظوظ، وتوقف مسارات التقدم, على الصعيد الشخصي؟ قد يكون التحول ناتجا عن السبب الأول، لكننا لا يمكن أن ننفي أن العامل الثاني له تأثيره على الكثيرين.

لماذا ينحاز مثقفون عرب إلى الطائفية والمذهبية؟
وفي الواقع العربي العام أمثلة على التنكر للفكر لصالح المصالح الفئوية، أو الطائفية المذهبية... كما في العراق، مثلا، إذ يعتصم كثير من المثقفين والسياسيين بالطائفية، أو المذهبية؛ لا لشيء إلا لكونهم يدركون أن الواقع السياسي في العراق يتطلب ذلك، وهم بهذا لا يتخذون من الفكر المدني الذي يقتنع به أكثرُهم جسرا لعبور أزمات البلاد، والوصول بها إلى العيش المشترك. وهذه واحدة من تجليات الإقصاء الفكري الناتجة عن تأزمات أخلاقية ترتد إلى الرغبة في السلطة وامتيازاتها.

وعلى الصعيد الفردي لا يميل كثير من الناس، مثففين وغير مثقفين، متعلمين وغير متعلمين، في حياتهم العملية، وفي اختياراتهم السياسية، إلى الانحياز إلى الفكرة، بقدر ما يميلون إلى الانحياز إلى صاحب الفكرة، وما له من سطوة ونفوذ، وما يضفيه عليه بريقُ المال، أو الموقع، فمكانته، ونفوذه بمقدار ما يؤثر في مصالح الناس، وبمقدار ما يتحكم في الوظائف، والأعمال، أو يسهِّل من المصالح، والمنافع, وخير ما يتجلى فيه هذا الأمر الانتخابات في البلاد العربية، عموما؛ إذ تُنفَق الأموال الخيالية لحشد التأييد، وجمع الأصوات، الموثقة بأغلظ الأيمان؛ ليشهد كثير من laquo;المساكينraquo; وlaquo;المعثَّرينraquo; من الموسم الانتخابي منافع لهم، وتحلو الحياة لهم أكثر؛ إذا اشتدت المنافسة، وصاروا عرضة للمساومة!

هل الفكر عاملٌ ثانويُّ التأثير؟
بالطبع ليس هذا هو الوضع الطبيعي للبشر؛ لأن الشعوب، تاريخيا، وواقعيا، تتغير بالفكر والثقافة، ودوما كانت الحضارة الأقوى هي الأكثر تأثيرا، حتى لو لم تكن مشفوعة باحتلال، أو هيمنة؛ هذا قانون الحضارات، وقانون اللغات، فالأقوى, والأقدر على تقديم الإجابات المقنعة للمشكلات الإنسانية هي التي تمتد وتطغى، كما أن اللغة الأغنى حضارة، والأغنى, والأدق دلالة تكون عرضة لإقراض غيرها مفردات، وحتى أساليب لغوية.

ولك أن تتذكر الحضارة العربية الإسلامية كيف تأثرت بالحضارات التي غزتها؛ فقد كان العرب هم الغزاة للفرس، مثلا، ومع ذلك، لم يستطيعوا إلا أن يتأثروا بالحضارة الفارسية، وأشكال الحياة، ومن فجر الإسلام لم يتورع عمر بن الخطاب عن الأخذ بنظام الدواوين، أي السّجلات التي تُسجَّل فيها أسماء الجند وأرزاقهم, ثم تتابع التأثر بالحضارة والثقافة الفارسية في المأكولات والمشروبات، والأدب والموسيقى, وفي وسائل العيش المختلفة وأدواتها.

وكذلك كان حال العرب مع النتاج الإغريقي، وقد تعدى التأثر الأشكال العامة إلى التأثر بالنتاج المعرفي الخاص، كالمنطق والفلسفة, وهي معارف أدخلت الكثير من الجدل والارتباك في فهم مسائل تستوطن صلب العقيدة, كمسألة القضاء والقدر, وغيرها، كصفات الله, كما أثَّر المنطق، طبعا، في علوم اللغة العربية, ومنها النحو والبلاغة.

كانت إذن العلاقة بين العرب الغازين الحاملين للدين الإسلامي والشعوب المغلوبة علاقة تأثير وتأثُّر، وبالرغم من أنَّ laquo;المغلوب مولعٌ أبدا بتقليد الغالبraquo; بحسب ابن خلدون؛ فإن العرب قد تأثروا بالفرس، كما تأثروا بالإغريق، والسبب أن تلك الحالة احتكمت إلى شكل آخر من أشكال الغلبة يمكن أن تكون laquo;الامتلاء والفراغraquo;؛ فقد كان لا بد لفراغات حضارية واسعة عند العرب القادمين من حياة بدوية، أو بسيطة التحضُّر أن تُملأ بالإرث الحضاري الذي تفتقده من حضارات الشعوب المغلوبة.

لماذا عُطّلت فاعلية الفكر في الحياة العربية؟

وما يمكن أن نؤكده مما سبق أن الغلبة في الأوضاع الطبيعة للفكرة الأقوى، وللحضارة الأغنى، والأكثر عصرية، أو معاصرَة، ولكن الحالة العربية اليوم ليست طبيعية؛ فلا ثمة بناء اجتماعي متجانس، ولا ثمة قدرة على التعاطي الفكري، ولا ثمة آليات للنقاش والمحاكمات الفكرية الرصينة، وفي المقابل تتفرد بالناس، أو تكاد عوامل الإحباط من المشاريع الفكرية النهضوية التي تحمس لها العرب بداية القرن الماضي، وما بعده، ولكنها لأسباب لا يلزم هنا ذكرها، لم تنجح, وتشترك عوامل الإحباطات السياسية كذلك في جعل الناس يزهدون بالطروحات السياسية، فقد أخفقت زعامات ورموز عربية كبرى في تحقيق نتائج ملموسة, أو الوفاء بما وعدوا به, وأمّلوا, وكان أبرز الإخفاقات ماثلا في الصراع العربي الإسرائيلي.
ونتيجة لذلك لم يكن غريبا أن تتغلب النفعية على الفكر، ما دام أنه لا مشاريع فكرية مبشِّرة في نظر الجمهور العربي، ولا زعامات سياسية صادقة، أو جديرة بالثقة على مستوى الطموحات الكبرى؛ فقد نفض الكثيرون أيديهم من العمل السياسي، ولم يعودوا يصدقون السياسيين، وأصبحت الفردية, والمصلحية، أو الإطار الذي يحميها, من حزب، أو طائفة هو محل الأمل، ومهوى الأفئدة, ومن أجله النضال والكفاح.

فمن أين يبدأ الإصلاح؟
فهل المطلوب أن تتجه جهود المفكرين والمصلحين إلى الطبقة الأعمق، إلى البنية الأخلاقية، وأن تُسلَّط الجهود على المشكلات التربوية التي تعوق التعاطي الفكري المنتج؟ هذا أمر لازم, ولا غنى عنه، ولكن التحدي السياسي والاقتصادي يبقى قائما أمام هذا الاتجاه؛ إذ الأحداث والوقائع تُفهم أكثر مما تُفهم الكلمات والبراهين النظرية.
[email protected]