تكتسب الانتخابات البرلمانية بمصر في الـ 28 من الشهر الجاري أهمية خاصة؛ كونها تمهد لانتخابات الرئاسة في خريف العام المقبل؛ لتضع هذه الدولة العربية المهمة أمام تحولات سياسية ذات تأثير كبير عليها، وعلى المنطقة.

وتشهد مصر حالة من الحراك الداخلي، والنشاط الحزبي، على صعيد المعارضة، وتتعالى الأصوات المطالبة بانتخابات نزيهة، بعيدة عن تدخلات الحكومة، وبمعزل عن تلك الحالة السياسية والدستورية التي لا تسمح برقابة محلية مستقلة للانتخابات؛ بسبب استمرار حالة الطوارئ السارية منذ العام 1981م التي تفرض قيودًا صارمة على الحريات المدنية في مصر، والتي تحظر التجمعات السياسية، والانتخابية، وتضيِّق حتى على لجان المراقبة المحلية في دخولها إلى مراكز الاقتراع....

هذه المعطيات أخرجت الإدارة الأمريكية عن صمتها؛ فجاء الموقف الجديد مطالبا الحكومة المصرية بالسماح بالتجمعات والتغطية الإعلامية الحرة، وتوفير المعايير الدولية التي تضمن نزاهة الانتخابات والقبول بمراقبين دوليين لضمان ذلك.

فلماذا جاء رفض القاهرة لهذا التدخل الأمريكي قويا؟
استحضرت مصر هنا سيادتها، وكرامة شعبها، فيما استندت أمريكا إلى الديمقراطية، وحاولت التجاوب مع الأصوات التي تطالبها بمغادرة موقفها الذي كان يقدم التعاون مع مصر في الشؤون الإقليمية، أي التعاون الدبلوماسي والعسكري والاستراتيجي لتعزيز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط على الإصلاح الديمقراطي، في مصر، وفي المنطقة.

نحن، إذن، أمام ثنائية بين السيادة الوطنية والتحول الديمقراطي، من الجانب المصري، وبين ثنائية أمريكية أخرى تتقابل فيها مراعاة مصالحها المهمة في المنطقة التي تضطلع مصر بدور أساس في تأمينها وتسهيلها، مع مراعاة الطموحات التي تتطلع إليه القوى الديمقراطية والإصلاحية في مصر والعالم العربي، وفي أمريكا كذلك.

فهل يعد الموقف الأمريكي الأخير تحولا جديا نحو الإصلاح الديمقراطي؟
لكي نعتقد بذلك، لا يكفي أن نسمع التصريحات الواضحة التي أطلقتها الخارجية الأمريكية بهذا الخصوص؛ فلا بد من ضغوط تتواصل، ومواقف عملية، تتجاوز التصريحات اللفظية، ولا بد من أن نشهد جملة من المواقف والمتابعات التي تسمح بالاعتقاد بأن الإدارة الحالية قررت تغيير نهجها الذي لا يؤمن بفرض الديمقراطية فرضا، ولا يَنْفذ بالقوة إلى المنظومة السياسية العربية، كما حاولت إدارة بوش الابن أن تفعل؛ وهو الأمر الذي سبب توترا واضحا بينها وبين أنظمة عربية، كانت مصر من أهمها.

لكن تلك الاستراتيجية الأمريكية (الطموحة) لم تنجح، وكادت تعصف باستقرار المنطقة، ثم ترافق ذلك مع تورطات أمريكية عسكرية في العراق وأفغانستان، جر عليها تبعات مالية كانت من العوامل التي أفضت إلى أزمة أمريكا المالية.

لقد فضلت إدارة أوباما الاقتناع بلا جدوى فرض الديمقراطية على دول المنطقة وشعوبها، وسايرت الدولة بمصر، في رؤيتها عن الديمقراطية الخاصة بمصر والتحول التدريجي نحوها.

وليس من المتوقع أن تضحي واشنطن بعلاقاتها المميزة مع القاهرة من أجل حملها، على تنظيم انتخابات نزيهة، وفق المعايير الدولية؛ فمصر تعتبر لاعبا أساسيا في عملية السلام، وما تزال- بالرغم من تراجع نفوذها- الدولة العربية الأكبر نفوذا، وتضطلع بأدوار لا تستطيع واشنطن الاضطلاع بها مباشرة، ومن الأمثلة على ذلك دورها في التوسط بين السلطة وحماس.

وعلى الصعيد العسكري laquo; تتمتع أمريكا بحقوق العبور السهل في قناة السويس للسفن الحربية وغيرها، وبحقوق التحليق والتزوّد بالوقود للعمليات العسكرية في المنطقة؛ بفضل علاقتها مع مصر. وهذه الأمور جميعها أساسية، وقيّمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة.raquo;.

فما الذي دفع إدارة أوباما إلى هذا التغيير؟
كما ذكرت أعلاه، إن المرحلة الحالية التي تشهدها مصر، وارتباط هذه الانتخابات البرلمانية بانتخابات الرئاسة، وتنامي الضغوط على إدارة أوباما لحمل الحكومة المصرية على مزيد من الإصلاح السياسي، وتخفيف التدخل من الحزب الحاكم؛ للاستئثار بالسلطة، وتواضع الإنجازات الخارجية لإدارة أوباما، وفي المنطقة، خصوصا. كل ذلك يدفع بالولايات المتحدة إلى إعادة تموضع لها؛ بما يكسبها بعض البريق، ويستبقي لها بعض التوازن؛ لكي لا تبدو وكأنها تصطف وراء النظام المصري، مع تنامي الانتقادات له داخليا، على مستوى الأحزاب ، وقوى المجتمع المدني.

ثنائية السيادة والديمقراطية:
لا يخفى أن امتلاك السيادة في أي بلد هو حصيلة البناء السياسي فيه، بما يفضي إلى امتلاك هذه الدولة لقرارها السيادي، وقدرتها على مقاومة الضغوط الخارجية، أو محاولات الابتزاز، ولكن من المهم أن نلحظ أن افتقاد الدولة لبعض العناصر السيادية لا يسوِّغ لها أن تفرِّط بما تحتفظ به منها؛ فمصر ما تزال قادرة على رسم خطوط حمر لا تسمح بتعديها، حتى من أمريكا، على الرغم من تواضع قدراتها في مواجهة أمريكا، ولكن هذه الحقوق السيادية مصونة في العرف الدولي، وليس من السهل على أية قوى أن تتجاوزها إلا إذا سمح النظام الحاكم لها بذلك.

لكن يبقى سؤال: لماذا تترك مصر لأمريكا المسوِّغ للتدخل؟ ولماذا لم تنجح الحكومة المصرية منذ فرضت قانون الطوارىء في إخراج البلاد إلى حالة متعافية تغنيها عن الاستمرار في كبح الحياة السياسية؟
ومهما كانت الأسباب التي تستند إليها الحكومة المصرية للاستمرار في هذه الحالة السياسية المحتقنة فإنها غير قادرة على الإمساك بها إلى الأبد.
فضلا عن المخاطر الوطنية التي قد تتسبب بها هذه الحالة التي يضعف فيها النسيج الاجتماعي، وتنقطع فيها الخيوط الرابطة بين الدولة وحزبها الحاكم من جهة، وبين فئات ليست هينة من الشعب، وقواه السياسية المعارضة؛ ما يفتح الباب للاستقواء بالخارج، ويوفر البيئة المناسبة للتدخلات الدولية التي تبلغ مداها، أو لاستغلال مثل هذه البنية غير المتماسكة لابتزاز مواقف سياسية من الدولة، ترتد سلبا على شعبها، ودورها، ومصالحها الإقليمية.
[email protected].