مع التقدير الكبير لهؤلاء الشباب الأحرار الذين امتلؤوا تصميما على التغيير, مهما بلغت التضحيات، والذين يندفعون من إراداتهم الحرة، ومن تطلعاتهم لما يجب أن تكون عليه بلدهم مصر، من كرامة، وتحرر، ومشاركة في الحكم، بعيدا عن الاستبداد، والتلاعب بأصواتهم الانتخابية، ومصائرهم، فإن ملابسات التظاهرات لا تخلو من مفارقات، كان من أبرزها حياد الجيش، إلا من الحفاظ على المراكز الحساسة في الدولة، والبلد.
كما كان لافتا, كذلك, موقف الأزهر, ممثلا في لجنة الفتوى فيه التي أفتت بجواز التظاهر السلمي في فتوى أصدرتها الأربعاء ، بعد 24 ساعة من المظاهرات التي شهدتها مصر احتجاجا على الأوضاع المعيشية، والمطالبة بإقرار إصلاحات سياسية و دستورية ، ولم تصدر عن دار الإفتاء فتوى مضادة، بل اكتفت بالصمت، دون تعليق على التظاهر, أو على فتوى الأزهر.
هذا الموقف من هذه الجهة الرسمية يسترعي الدراسة؛ ذلك أن لها مكانة مهمة في نظر عامة الناس، هذا من جانب، ومن جانب آخر ينطلق السؤال: لم غيَّر الأزهر نهجه الذي لم يكن يناهض الدولة، بل كان يتعرض إلى كثير من النقد, من كثيرين ممن رأوه متماهيا مع الدولة في آرائها، أكثر مما هو هيئة فقهية مستقلة.
بل بلغ الأمر في الشيخ الشحات مرزوق رئيس لجنة الفتوى، في الأزهر، إلى ما يشبه التحريض، بقوله:laquo; إن الفتوى الصادرة جاءت استنادا إلى قول الرسول- صلي الله عليه و سلم-: quot; من رأى منكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمانraquo; .
ثم وضع ضوابط تكفل للاحتجاجات صفة الشرعية, والقبول بقوله: laquo;إن الفقهاء اشترطوا في إباحة المظاهرات أن يأمن المنظمون لها ألا يندس فيها المخرّبون، والمفسدون في الأرض quot; ، مشددا على quot; أن الإسلام حرم التخريب، ونهب الأموال، والاعتداء على الممتلكات الخاصة، والعامة مهما كانت الأسباب و المسبباتraquo; .وآخر موقف صدر عن شيخ الأزهر بيان دعا فيه إلى وقف إراقة الدماء., وهو موقف يصب في مصلحة المتظاهرين الذين دماؤهم الأكثر سفكا.
وهنا نود لفت الانتباه إلى أننا نتحدث عن لجنة الفتوى في الأزهر, وليس عن جبهة علماء الأزهر التي لها مواقفها الخاصة التي تخرج عن المؤسسة الرسمية.

ويبقى السؤال: لمَ تجاوز الأزهر نفسه في هذا الموقف؟
والمعروف تقليديا عن هذه المؤسسات الدينية, ومشايخها التركيز على مفهوم الطاعة لولي الأمر، ورفض الخروج على الحاكم المسلم، إلا بالنصح الهادىء، بعيدا عن الفتن، والشغب، والفوضى.
وفي عمق المرجعية التي يستند إليها الأزهر رأي أهل السنة الذين يفضلون الرضا بالحاكم المُتغلِّب، أو الغاصب للسلطة, في مصطلح العصر؛ إذا كان في ذلك حقنا للدماء، ومنعا من إثارة الدهماء.
ولم يصدر عن العلماء الرسميين أنهم يفرقون جوهريا بين حكام البلاد العربية, والإسلامية, وبين الخلفاء, والأمراء السابقين عليهم، فهم مسلمون، والديار إسلامية, ولو كان لهم بعض التحفظات على بعض القوانين، والمواقف لهذه النظم.
ولفهم المشهد المصري المتطور, أو أية جزئية فيه، كموقف الجيش، والموقف الديني الرسمي, مثلا, لا بد من مقاربة سياسية تحليلية لما يجري، وتلمس موقف الدول الفاعلة؛ لأن الدعم الدولي له دور لا يُستهان به, في منح النظم شرعية خارجية لا يستهان بها.
ولعل أولى الدول الجديرة بالملاحظة, هي أمريكا التي ظلت تدافع عن النظام المصري، ولكن نبرة الانتقاد كانت ترتفع مع تصاعد وتيرة المظاهرات، حتى لوحت بالمساعدات المالية لمصر البالغة مليارا ونصف المليار سنويا.

وكانت إدارة أوباما قد أظهرت تباينا مع الإدارة في عهد بوش الابن الذي كان أكثر تركيزا على ملف الإصلاح الديمقراطي في مصر, وأكثر انتقادا للنظام المصري، وتصادما معه؛ إذ قدم أوباما ملف السلام في المنطقة، والاستقرار, على موضوع الإصلاح، وأظهر تقبلا ما، ولو بالفعل، دون القول، لتبريرات النظام المصري الذي دأب على القول بالإصلاح التدريجي، مقدما بذلك( أوباما) المصالح الأمريكية, على المبادىء والقيم.

فهل ضاقت أمريكا ذرعا بنظام مبارك؟ أم أنها ترهن موقفها النهائي للتطورات الميدانية؟
بالطبع لا ندري بما دار مع رئيس أركان الجيش المصري الذي كان في زيارة إلى واشنطن، لكننا لا نملك أن نغفل موقف الجيش غير المتورط في قمع المتظاهرين, حتى وردت معلومات عن اشتباكات بين الجيش، وقوات الأمن المتصدية للمتظاهرين.
وثمة خبر أكثر إثارة أوردته صحيفة الـ laquo; ديلي تليجرافraquo; قد يصب في الإجابة عن السؤال المطروح في العنوان أعلاه، يقول بوجود دعم سري أمريكي لقادة المتمردين الواقفين وراء الانتفاضة المصرية. وقالت ديلي تليجراف إنها علمت أن الحكومة الأمريكية تدعم بصورة سرية شخصيات بارزة وراء الانتفاضة المصرية، وأن هذه الشخصيات كانت تخطط إلى quot;تغيير في النظامquot; منذ ثلاثة أعوام. وذكرت الصحيفة أن هذه المعلومات جاءت في برقيات دبلوماسية سرية نشرها موقع ويكيليكس.
لا حاجة إلى التذكير بأهمية مصر الاستراتيجية، وموقعها المهم، بقناة السويس الحيوية، وأهمية الموضع، والدور الذي تشغله مصر في العالم العربي, والإسلامي، كذلك، ودورها المهم في مفاوضات السلام مع إسرائيل، وإشرافها على الملف الفلسطيني؛ فليس من السهل أن تتخلى أمريكا عن مصر، ولكن رياح التغيير التي قويت بعد ثورة تونس قد تحوجها إلى التكيف معها؛ فقد تكون رفعت بعض الغطاء عن النظام، كما لوحت بورقة المساعدات المالية؛ لدفعه إلى الإصلاح الذي لم يعد يحتمل مزيدا من التأجيل، أو أن أمريكا تريد الإبقاء على تواصل مع القوى الصاعدة, من الشباب الذي يلابس طموحه إحباط، ولكن نجاح احتجاجات تونس في التخلص من ابن علي قوَّت من عزيمته؛ لتحقيق حياة أفضل.
ليس من الغريب أن ينحاز الجيش والمؤسسة الدينية إلى الشعب، ولا سيما، وهم من أبنائه، ولا سيما, إذا لمسوا تغيرا قريبا، واندفاعا يصعب الوقوف في وجهه؛ فلعل قيادة الجيش تعاطفت مع الشعب، ولم تُرِد سفك دم المتظاهرين؛ نظرا للأعداد الحاشدة التي تخرج في هذه المظاهرات، وكذلك المؤسسة الدينية التي تخضع لضغوط شعبية قوية في هذا الظرف؛ فنأمل أن تتعزز الدلائل على مثل هذا الانحياز الصرف, والدائم.
لكن الاطمئنان إلى ذلك يبقى فيه من الأمنيات، بقدر ما فيه من الواقعية، أو لعل الأُولى لها من الحظ الأوفر، وحتى نصدق أمنياتنا، نحتاج إلى مزيد من الترقب، والإشارات، على تغير جوهري, في الدولة المصرية, نحو إعادة القرار إلى الشعب؛ للتعبير عن إرادته، في ظروف وبيئة تسمح بذلك.
[email protected].